الانتخابات الجزائرية والتحديات المستقبلية/ الدكتور عبد الرزاق قسوم
انطلقت في دواوين الحكومة الرسمية، ووسط وسائل الإعلام الوطنية، الإعلانات عن بدء الحملة الانتخابية لاختيار ممثلي الشعب في المستويات القاعدية. وتصادف هذه الحملة الاحتفالات الرسمية بذكرى الأعياد النوفمبرية، ولكن في جو تميزه تناقضات الطبيعة المتميزة بحرارة صيفية في عز الشتاء؛ وبرودة شعبية في غمرة الحملة الانتخابية، والاحتفالات المخلدة لأعظم حادثة تاريخية وطنية في التاريخ المعاصر.
إن الألم المزدوج الذي يستبد بنا في هذا الجو المشحون بالبرودة والحرارة المتناقضين، هو غياب الحماس الشعبي الوطني، ومظاهر الوطنية الحتمية، فلا أثر لأي علم وطني يطل علينا من نافذة أي منزل، ولا التزام بتجديد العهد الفعلي للشهداء والمجاهدين.
كما يتجسد الألم أيضا في عزوف الشعب عن أي مظهر من مظاهر العناية بالمرشحين وبرامج الحزبيين السياسيين، بل الملاحظ هو صدود المواطنين عن المعلقات الانتخابية وكأنها اللّاحدث.
كيف يمكن تبرير مثل هذه المشاهد السلبية من جيل بعده لحمل الأمانة، وتعلق عليه كل الآمال في رفع الغبن والإهانة؟
وكيف لوطني مخلص أن يبرر بالمقابل المشهد الاستفزازي التي صنعها أمام المركز الثقافي الفرنسي بالجزائر…، بغية الخروج من الوطن في الاتجاه المعاكس. تالله إننا لنخجل من واقعنا الحالي التعيس، وملامح المستقبل البئيس الذي يجسده وطن حبيس متنكرا لقيم ومبادئ ابن باديس.
فمن يتحمل بكل أمانة، وشجاعة وموضوعية هذا التردي الذي سقطنا في فخاخ مطباته؟ فحولت شعبنا الموصوف بالشعب المليون شهيد لشعب المليون طريد وشريد، وعنيد؟
أيحدث كل هذا بعد نصف قرن من استعادة سيادتنا، واستئناف زيادتنا وتبؤ معالم قيادتنا؟
إننا نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، ونبرأ إلى الله من الشدة بعد الرخاء، ومن شيوع الغلو والطغيان والغلاء. نريد من كل من له مثقال ذرة من الوطنية والوعي بفقه المواطنة، أن يحاسب نفسه أولا عن مدى مسؤوليته لما آل إليه وضعنا.
إننا نريد من السياسي، ومن الاقتصادي ومن الثقافي، ومن التربوي، ومن الرياضي، ومن كل جزائري شريف، نريد من كل واحد من هذه الفئات أن يخضع لحريته الخاصة للتأمل والتفكير، فيحدد منهج السير والمسير، وأن يتحرر من ثقل الضمير بانتهاج النقد الخطير لما سببه للوطن، من سلوك أسهم في صنع سوء المصير.
إن الهوة السحيقة – إذن- التي أصبحت تفصل الشعب عن نوفمبر، وعن جيل نوفمبر، وعن كل ما يحاول جيل نوفمبر اقتراحه من الانجازات، والاستحقاقات، إن هذه الهوة مصدرها، انعدام الثقة بين الجيلين، بل وربما –دون جلد للذات- إفلاس جيل نوفمبر، وفشله في الوفاء لصناع نوفمبر، وشهداء نوفمبر، وقيم ومبادئ نوفمبر.
ويكفي أن نلتفت يمنة ويسرة، ونحن في ذكرى الجهاد والاستشهاد، يكفي أن نلتفت إلى محيطنا وإلى الجيل الصاعد من حولنا، لتنفجر في وجوه الردة الثقافية والتربوية، التي تملأ بالرطانة ألسنتنا وألبستنا، وواجهات محلاتنا، وعندما نحاول نحن الذين عشنا مراحل الجهاد النوفمبري، أن نقارن بين معلومات جيلنا الذي كان يتميز بأخلاق الصحابة في أمانته وروحانيته، ويقتدي بالسلف الصالح في معاملته ومواطنته، نقارن بين هذا، وبين جيلنا الصاعد في شكله ومضمونه، وفي لحاه وذقونه، وفي آماله وشجونه، لندرك خيبة الأمل الكبيرة، وما أصاب جيل اليوم مقارنة بجيل الأمس.
فأين يكمن السر إذن في هذا التحول المذموم؟ وهذا الانقلاب المشؤوم؟ وهذا التوجه المسموم؟
إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة الخطيرة، يلقي بنا في جو سحيق من التحاليل والتعاليق.
إن نقطة الانطلاق الملعونة تكمن في ردتنا الحضارية، التي جعلتنا نتنكر لكل ما هو أصيل فينا، فتعجمت ألسنتنا، وتغربت أفئدتنا، وتفرنست ذهنيتنا، فحدثت فينا هذه القابلية للاستعمار، والاستحمار، والاستخمار.
لم نجد ما أنفقناه في منظومتنا التربوية من ميزانيات لبناء المواطن المؤمن لوطنيته، والإنسان الصالح لإنقاذ أمته وحضارته.
بل لعلنا، غذينا بأموالنا، ومناهجنا المعكوسة، كل ما يدعو إلى الانحراف في تاريخنا وأصالتنا وعراقتنا، فأصبحنا منبتين، لا مسافة قطعنا، ولا أصلا أيقنا.
أوتينا ملكا فلم نحسن سياسته وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ذلك هو شأننا «اليوم تكون أجيالا لا تشبه أي جيل»، خالية العقول من العلم، وخاوية القلوب من الفهم، وما صبغه الإيمان بأي حلم.
أفبعد هذا نلوم الشعب إذا ما هو غاب عن جد الجهاد، وذكرى نوفمبر؟ ونلعن الشباب لأنه أقدم على المركز الثقافي الفرنسي، طالبا الفرار إلى المهجر؟
وتقلب الأكف على لامبالاة الجميع لكل استحقاق؟
إن المفروض في الانتخابات البلدية أنها أقرب للانتخابات إلى القاعدة الشعبية بحكم ارتباط مصالحا، وحياتها الاجتماعية والاقتصادية، بصلاح أو فساد البلدية. ولكن الملاحظ هو خيبة الأمل في البلديات هي التي صنعت لدى المواطنين عقدة اللامبالاة، فالتلاعب بمصير الأرض، والتقاعس عن آداء الحق والفرض، وتطبيق «المحاباة والمحسوبية» في توزيع السكن، على مستحقيه من المحافظين على العرض، هو التعليل الحقيقي لانسحاب الناس من كل المقرات في أداء الواجبات.
لذلك بات ضروريا كمطلب وطني، هو إخضاع كل التجربة الجزائرية من الاستقلال إلى اليوم إخضاعها للمراجعة، وإعادة النظر فيها، وفق مصفاة وطنية وإنسانية، تسقط الساقط، وتبقي على المصالح.
فالخلل الكامن في سوء التسيير والاستهانة بالقدرات والكفاءات في التخطيط والتدبير، هذا أدى إلى ما نحن عليه من هشاشة وواقع عسير.
إننا وسط الحيرة والدهشة التي أصبحت لازمة من لوازم المواطنين، وفي عمر اللامبالاة، والردة التي تستبد بالأبناء الصاعدين، لرفع أكف الضراعة إلى الله تعالى في «شهر نوفمبر» شهر الطّهر والأطهار، بيده حياتنا إلى الأمن والأمان والاستقرار، بعد هذا الذي أصابنا من الاضطراب والانكسار.
إنا فينا الصالحون والمصلحون، ومنادون لذلك، فعسى الله أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأن ينظر إلينا بعين رحمته، وبفضل العلماء والمخلصين من الشهداء، وكلنا أمل ورجاء في واسع المغفرة، يا أرحم الرحماء أن تزيل عنا البؤس واليأس والشقاء.