التجربة الصوفية في شعر عثمان لوصيف
د/ عاشور توامة/
إن الواقع الذي عاشه الشاعر المرحوم (عثمان لوصيف) هو واقع الاغتراب مما جعله يطلب عالما آخر، غير هذا العالم الأرضي، لذا كان ينزع في شعره إلى العالم السماوي الأفضل والأطهر، فكان أن انغمس شعره في فيوضات ومجازات اللغة، إنه الانتماء لعالم الروح وعالم التجربة الصوفي.
وكما نعلم فإن كلا من الصوفي والشاعر يحلمان بعالم مثالي ومتكامل وأنموذج هو عالم الروح، حيث الصفاء والسكينة تتنزلان من كل مقامات ومدارج، أي البحث عن عالم أكثر اطمئنانا وأمنا من العالم المدنّس، لذلك لم يجد له الشاعر الصوفي وسيلة عدا الانغماس في العوالم الروحية بكل ما يملك من طاقات وتجارب، من أجل تحليقات لامتناهية في عوالم الامتاع، حيث يحاول التغلب على مادية هذه الحياة من خلال الارتقاء إلى عوالم نورانية تذوب فيها الفوارق الدنيوية، وتصفو فيها النفس البشرية، وتنكشف الأسرار الربانية لمن سلك الطريق سلوكا سويا.
إنه امتزاج التصوف بالفن الغني بالدلالات الشعرية والشعورية، لما يُجسّر من علاقات حميمية بين الشعر والتصوف وسفر نحو المطلق واللانهائي، هذا الامتزاج الطبيعي بحكم تشابه المقصد هو الذي جعل اللغة الشعرية عند عثمان لوصيف -رحمه الله- تنتقل من رؤية إلى رؤيا، ومن لغة الواقع إلى لغة الحلم، حيث الإحساس بالجمال والاستغراق في التحليقات الروحانية، من أجل أن تصفو نفس الشاعر/ المتصوف من أدران الواقع، وشوائب الحياة، ومن أجل الوصول إلى الحقيقة وجوهر الأشياء.
إن التجربة الصوفية هي تجربة لغوية في إبداعها أساسا عند الشاعر الجزائري عثمان لوصيف؛ إذ نرى من خلال نصوصه الشعرية الصوفية، أنه حاول التمرد على اللغة العادية لما ارتأى أنها غير قادرة على استيعاب كل المعاني الروحية التي يريد أن يعبّر عنها، وهو يعلم علم اليقين أن الإنسان في معركة دائمة بين المقدّس والمدنّس، إذ يحاول أن يبتعد عن هذا الأخير بشتى السبل، حتى يقترب من خالقه الذي يتجلّى له كلما اعتلى مدارج الروح، التي تصعد مبتعدة عن شواغل النفس وشهواتها وملذّاتها.
إن أغلب قصائد الشاعر المرحوم عثمان لوصيف هي تحليقات صوفية؛ حلّقها الشاعر في عوالم الروح والسفر نحو المجهول كي يحقق تواصلا عرفانيا بين السماء والأرض، وحقيقة من حقائق الإنسان، وهو توقه إلى الخلود ورفضه للموت، من خلال ثنائية الفناء والبقاء.
لذلك نجد للشاعر عثمان لوصيف نصوصا كثيرة يحاول من خلالها ملامسة العرفانية بكل تمظهراتها، إما على الصعيد اللغوي أو على المستوى الفكري أو السلوكي، لا من حيث المعجم اللغوي فحسب؛ ولكن من حيث المعجم الإيحائي والرمزي، بحيث يهدف إلى تقمص وجدانات الصوفية في أسمى تجلياتها والتي نجد لها صدى في نص «التّجلّي»:
وأنا العاشق المتصوف
عانقت كل المدارات
كل البروق،
وكل المرايا
أفتش عن منتهايا
أفتش عن سدرتي…
ما ارتوى القلب يوما ولا هدأت مهجتي
ثم … حين رجعت إلى الأرض
أحتضن الطين والياسمين
تجليت في أفقي
واكتشفت بأن سمائي
تختفي في عيون النساء
هذا التحليق نجده عند الشاعر عثمان لوصيف في عالم الروح حيث الصفاء والحبّ الطاهر، حيث المرأة تشكل رمزا من رموز المحبّة الإلهية، إذ يستعين بها الشاعر بوصفها ضرورة من ضرورات الانتقال من مقام إلى مقام أو من كشف إلى كشف آخر.
إنها الرحلة التي بدأها من الأرض صوب السماء ثم الرجوع إلى الأرض، هذه السدرة التي ورد ذكرها في سورة النجم من القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعـــــالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ﴾ إنها جنّة عثمان لوصيف -رحمه الله- ومقامه الأخير بعد رحلة قطعها حاول من خلالها أن يتخلص من عذاباته وحزنه القديم، باحثا عن نور يضيء له جوانحه ويفتح له أسرارا غيبتها شهوات النفس. ومسافات البعاد وخذلان الطريق.