في رحاب الشريعة

فـــــك قيــــود الأزمات والتخلص من عثرات الانهزامات

الشيخ محمد مكركب أبران
Oulamas.fetwa@gmail.com/

الأزمة تعني الشدة والضيق والفاقة، وبمفهوم الاقتصاد فالأزمة هي القحط والجدب والسنين التي يفتقر فيها الناس إلى الضروريات من القوت، ويتعرضون إلى الجوع والعطش والمعاناة، أو قل إن الأزمة في الفكر العمراني: اضطراب فجائي يطرأ على التوازن الاقتصادي بسبب اختلال في التوازن بين الانتاج والاستهلاك. والأزمة السياسية الداخلية هي: الاختلال الذي يقع في جهاز الحكم عند حدوث فراغ في مراكز القرار. أو عند الثورات والانقلابات، والأزمة السياسية الخارجية التوتر والاضطراب في العلاقات بين الدول. وكلامنا في هذا المقال عن الأزمات الاقتصادية. والأزمة تسمى القحط وتسمى السنين، كناية عن الزمن الذي يتضرر فيه الناس من قلة مصادر العيش، والأزمة الاقتصادية أنواع بحسب المجالات العمرانية، منها: الأزمة الصحية، والأزمة السكنية، والأزمة المالية، والصناعية، والفلاحية، والتجارية، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من كل هذه الأزمات، فعن عبد الله بن عمر، قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: [يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أُخِذوا بالسنين، وشدة الْمَئُونَةِ، وجَوْرِ السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم، فأَخَذُوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيروا مما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم] (سنن ابن ماجة. كتاب الفتن. 4019) فهذا الحديث الشريف ورد فيه بيان أسباب الأزمات، بكل تفصيل ووضوح، ألا يليق بالمؤمنين العقلاء أن يتوبوا إلى الله تعالى وينتهوا عن الخطيئات والأخطاء والغلطات، والفساد، والصراع الذي اشتد بين بعضهم، والعداوة المقيتة التي انتشرت نارها بين كثير منهم؟
ولكن كيف الخروج من الأزمات؟ أو كما قلنا في العنوان: كيف يتم فَكُّ قيودِ الأزمات، والتخلص من عثرات الانهزامات؟ وبداية مع التاريخ. عندما أوشكت أكبر أزمة اقتصادية أن تصيب مصر في عهد النبي يعقوب الكريم عليه الصلاة والسلام، وابنه الكريم يوسف عليه الصلاة والسلام، وتمثل إنذار الأزمة في رؤيا رآها ملك مصر يومها، وراح رسوله يسأل يوسف عليه الصلاة والسلام. ليفتيه في رؤياه. ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ قال رسول الملك ليوسف: أيها الصدوق العالم الخبير بتعبير الأحلام: أفتنا في رؤيا الملك، ثم قص عليه خبر الرؤيا كلها، كما وصفها لهم الملك، فبين لهم يوسف الخطة الفلاحية العلمية،قال لرسول الملك: يأتيكم سبعُ سنين خصبة غنية بالحبوب والغلال، سبع سنين متوالية، فما حصدتم فاتركوه في سنبله لئلا يأكله السوس نبههم إلى الطريقة الصحيحة في التخزين كي لا تفسد الحبوب، ولا تفصلوا الحب عن السنابل إلا بالقدر القليل الكافي للأكل الضروري، فهذه السنون السبع هي البقرات السّمان والسّنابل الخضراء السّبع. قال له: ثم يأتي بعد ذلك سبعُ سنين جدباء شحيحة قليلة الإنتاج، يأكل أهلها كل مدّخرات السنين السابقة إلا قليلا مما يدخروه للبذور.
ثم يأتي من بعد تلك السنين الأربع عشرة، عام ينزل فيه الغيث وهو المطر الساقي الذي يروي الأرض وينفعها، وبه تكثر الغلال، ويعصر الناس ألوانا من العصير كزيت الزيتون وسكر القصب، وشراب العنب، ونبيذ التمر، ونحوها.
فرأيتم أن فك قيود الأزمات، بل والوقاية منها، أولا بالبحث عن أهل الخبرة والحكمة، ولا يكتفى الحكام ببطانة المستشارين الموظفين في قصورهم، وبالملأ من المقربين إليهم، بل يوجد في أعماق مجتمعهم من لهم علم وحكمة وتجارب وفقه وذكاء، فإن ملك مصر يومها لو اكتفى بمجلسه الاستشاري الْمُنَعَّمِ في قصره، والملأ من قومه، لما توصل إلى وقاية البلد من أزمة كادت تأتي على الأخضر واليابس. فإن الكهنة الذين كان يستشيرهم ماذا قالوا له عن الرؤيا؟﴿وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ﴾
فالبطانة الموظفة والملأ المقربون قد يوافقون عن غير علم، وقد لايعلمون وحدهم الصحيح من الفاسد، وقد يسكتون عن كبائر يرونها صغائر، وقد يداهنون حفظا لمناصبهم وولائهم ومكاسبهم، أما العلماء المتحررون فإنهم يفكرون بحرية العقل، ويستدلون بدليل النقل.
إن فَكَّ قيودِ الأزمات مهما كانت تتحقق بأربعة مفاتيح:
أولا: حفظ المال العام وتوظيفه بالعلم والعدل والحسبان، وفق فنون التنمية في أبوابها الصحيحة، ووضع جدول ميزاني دقيق من الألف إلى الياء، كل دينار أين وكيف ومتى ولم يصرف. قال الله تبارك وتعالى:﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ﴾ (البقرة:188) وقال الله سبحانه وتعالى:﴿وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً﴾ (النساء:5) وقال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ (الإسراء:27)
ثانيا: توزيع القدرات الإنتاجية توزيعا علميا وفق قانون الانتاجية الاقتصادية الصحيحة، بتبيان كل فرد في المجتمع، ماذا يعمل وما ذا ينتج، وما هو دور المصلحة الفلانية، والإدارة الفلانية، وما علاقة كل جهاز في الوطن وما هو دوره؟ لتنقية المجتمع من البطالة المقنعة، والفراغات التطفلية.
ثالثا: ربط الثانوية بالجامعة مباشرة، والجامعة بالمعامل والورشات والإدارة والمصانع، بحيث يسير التعليم والبحث العلمي وميدان العمل بالتوازي والتكامل جنبا إلى جنب، وهذا النظام يحقق النتائج الآتية: القضاء على البطالة لفائدة الانتاجية وتحقيق الاكتفاء. دخول ميدان الاكتشاف والاختراع. ارتفاع المستوى التعليمي. والقضاء على الانحراف.
رابعا: اعتماد الزكاة بدلا من الضرائب المرهقة، والمكوس العشوائية، فالزكاة قوة اقتصادية كبيرة، كافية لتحقيق الأمن المجتمعي والتكافل الاقتصادي، ومن جهة أخرى فالزكاة تُمَتِّنُ الروابط الأخوية والتآلف النفسي والأدبي بين المواطنين، تحقيقا للأمن والسكينة، ثم إن الزكاة أصل من أصول الدين، والدين هو النظام الضامن لبناء الدولة. قال الله تعالى:﴿خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (التوبة:103) الزكاة تربي النفوس على الصدق والحب والامتثال. والضرائب والمكوس تدفع إلى الكذب والكراهية والاحتيال.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com