المجاهــــد الأكاديمي الدكتــــور محمـــد قنطار كما عرفـــت
وأنا أتلقّى مساء هذا الثلاثاء 26 جمادى الثانية 1442ه م الموافق لـ 13 جانفي 2021 م نبأ وفاة حبيبي المجاهد الباحث الكاتب د/ الحاج محمد قنطاري -رحمه الله-.
رأيت أن أكتب للأجيال نُتفاً من حياة هذا المجاهد الملهم الذي صنع الحياة بذوب جدّه وجميل عطائه وإخلاصه، فكان نعم الأستاذ المحاضر والباحث الأكاديمي والمؤرّخ الدّقيق.
ولد الدّكتور محمّد قنطاري بتلمسان سنة 1942 بين أحضان أسرة تلمسانية مجاهدة
التحق بالثّورة المسلّحة سنة 1956م تاركاً دراسته اشتغل محافظاً سيّاسيّا وعضواً بالمنطقة الأولى للولاية الثّوريّة الخامسة درس بالجزائر والمغرب ومصر وفرنسا فنال شهادة الباكالوريا، ونال بعدها شهادة اللّيسانس في التّاريخ والقانون.
كما حصل على دبلوم الدّراسات المعمّقة والعليا في التّاريخ العسكري والمنازعات الدّوليّة والقانونيّة. استعذب البحث والدّراسة مدّة عقد من الزّمن في فرنسا من سنة 1980 إلى سنة 1990م مركّزاً اهتمامته على تاريخ الثّورة الجزائريّة، ليتوّج ذلك بنيل شهادة دكتوراه دولة من جامعة مونبلي ببحث معمّق يحمل عنوان: «التّنظيم السّيّاسي والإداري والعسكري للثّورة الجزائريّة من 1954 إلى 1962 م».
أضحى الدكتور سي محمد قنطاري بعد ذلك مختصّاً في التّاريخ العسكري والدّراسات الإستراتيجيّة.
حاضر في العديد من الجامعات والمعاهد المدنيّة والعسكريّة والمؤتمرات الإقليميّة والدّوليّة (مصر فرنسا الولايات المتحدة بريطانيا المانيا روسيا)
له عديد المؤلّفات منها:
– من ملاحم المرأة الجزائريّة في الثّورة وجرائم الاستعمار
– تلمسان خلال ثورة التّحرير
– وهران خلال ثورة التّحرير
– من بطولات المرأة الجزائريّة في الثّورة
– التّنظيم السّيّاسي والإداري والعسكري للثّورة الجزائريّة باللغة الفرنسيّة في جزأين
أنتج عددا من الأفلام الوثائقيّة والقصص والنّصوص عن الثّورة ورجالها له عدّة مخطوطات ومكتبة ثريّة قلَّ أن توجد مثيلاتها في الجزائر قاطبة، فيها أرشيف من عتاد وصور ووثائق وبحوث وكتب مختلفة، لها علاقة بتاريخ المقاومة وأحداث الثّورة الجزائريّة المسلّحة.
تعرّفت على شخصه الكريم بواسطة أخي أحمد العالم نجل شيخنا محمد باي بلعالم الذي كان همزة وصل بيننا فقد ظلّ يحدثني عنه منذ وفاة والده سنة 2009 م ويستحثّني لزيارته باعتباره أحد معارف شيخنا محمد باي بلعالم -رحمه الله -.
وكنت كلّما حللت بوهران أتّصل به إلى أن كتب الله لي زيّارته عشيّة 16 جويلية سنة 2017 م صحبة إخواني قويدر بلمير ورشيد حمدات من ورقلة وأخي الحاج محمد حماز من مدينة وهران، وفي هذه الزيارة أُتيح لي أن أتعرّف على كنز من كنوز جزائرنا، فقد ألفيته شخصيّة جامعة بين العلم والثّقافة وتجارب الحياة، ملمّا بتاريخ الجزائر، له علاقة بصنّاع القرار قبل وبعد الاستقلال.
ساير المجاهد الحاج محمد قنطاري أحداث الثّورة وما بعدها، وهو شخصيّة هادئة متواضع ولطيف، يحدّثك عن الثّورة وتضحيات الشّهداء والمجاهدين بتأثّر بالغ يحاول كلّ مرّة أن يربط سامعه بتواريخ الأحداث والظروف المحيطة بها في عبارات سلسلة لا تكلُّف فيها حين دخلت بيته العامر خلته جناحاً من أجحنة متحف نادر، إذ جمع فيه الكتب والمجلات والمعدّات الحربيّة من أسلحة وعتاد ووسائل إعلاميّة عتيقة وعشرات الصّوّر التي تبرز جهده وجهاده وتحرّكاته الميدانيّة ولقاءاته بقادة الثّورة وكبار الشّهداء والمجاهدين وقادة العالم، وأفلام ثوريّة كتبَ نصوصها وأشرف على تصويرها بنفسه وهي اليوم أرشيف طيّب يسجل مفاخر الثّورة الجزائريّة المجيدة.
حدثني كثيراً عن شيخي باي بلعالم -رحمهما الله – وقد لزمه كثيراً وجمعتهما لحظات حرجة أيام العشرية السوداء فقد أنجاهما الله من الموت وهما يغادران حي باينام بالعاصمة تحت وابل الرصاص.
ولا يمكن أن أنسى هديته التي خصّني بها عند زيارة له إذ أكرمني بزجاجة زيت زيتون أُهديَت له من بلاد الأقصى التي حدثني عنها الكثير وهو الذي يرى ملكيتها للعرب والمسلمين جميعا مستحضراً قول الشيخ البشير الإبراهيمي في ذلك: «أيها العرب إنّ فلسطين محنة وامتحن الله بها ضمائركم وهممكم وأموالكم ووحدتكم وليست فلسطين للفلسطيين وحدهم وإنما هي للعرب كلهم».
هذا هو المجاهد سي محمد قنطاري، عرفته الجزائر مجاهداً وباحثاً مميّزاً وأستاذاً محاضراً وأديبا كاتباً وإعلامياً بارزاً ومثقفاً واعياً وجهلته أجيال كثيرة عاصرته فحرمت من عطاءاته لغياب التواصل وترابط الأجيال والزهد في هذه المفاخر والطّاقات، ويمكن المسارعة في استدراك هذا التقصير من خلال ثلّة باقية من أمثاله لأنّ الموت يتخطفهم واحداً بعد آخر .
رحمه الله وطيب ثراه وجعل الجنة مأواه
بقلم الأستاذ إبراهيم بن ساسي