حسن البنا…

يكتبه د. محمّد قماري/
بحلول يوم الثاني عشر من الشهر الجاري (فبراير)، تكون اثنان وسبعون سنة كاملة قد مرت من تاريخ مساء ذلك السبت على الساعة الثامنة والربع مساء، يوم أطلق مسلحون النار على جسد ذلك الرجل الذي يدلف لمرحلة الكهولة، حيث استقرت سبع رصاصات في جسد الشيخ حسن البنا المرشد العام لجماعة (الإخوان المسلمون)…
وإن الحيرة لتتملك المرء وهو يلاحظ أن اسم (حسن البنا) ما يزال حاضرا بين الناس، لا في مصر وحدها التي فيها نشأ وأسس جماعته، ولا في الأقطار العربيّة والإسلاميّة وحسب، بل يمتد صدى تلك الشخصيّة إلى مراكز بحوث عالميّة، تحاول فهم شخصيّة الرجل وقوة تأثيره، وسر تمدد جماعته وقدرتها على الانبعاث على الرغم من شدّة ما تعرضت له من امتحانات بدت في حينها أنها ضربات قاضيّة…
فإذا حاولنا رصد الجانب الشخصي في حسن البنا، وجدنا أنفسنا إزاء رجل لم يعمر إلا اثنين وأربعين سنة (1906-1949)، اشتغل مدرسًا في المدارس الابتدائية بعد تخرجه في دار العلوم، وهو سليل عائلة متوسطة الحال من حيث وضعها الاقتصادي و الثقافي والاجتماعي، فما سر جاذبيّة هذه الشخصيّة في حياتها ومن بعد موتها؟
ذلك ما يعود بنا إلى السياق التاريخي الدولي، والسياق المحلي في العالم الإسلامي عموما والعالم العربي على وجه أخص، فالحرب العالميّة الأولى ضعضعت الاستقرار في أوربا، وتكاليف الحرب الباهظة زادت من تكالب البلدان الأوربيّة على استنزاف مستعمراتها، كل ذلك وما تبقى من رمز الوحدة الإسلاميّة ممثلا في الخلافة العثمانية يتهاوى بقرار دولي وقعه مصطفى كمال أتاتورك في لوزان…
لقد تناهى لأسماع أبناء المستعمرات أخبار وحرائق الحرب العالميّة، معها قيم وأدبيّات تدعو للمقاومة والتصدي، وتشيد بواجب حماية الأوطان والتضحية من أجلها، وتلقى الشباب المتعلم تلك الخطابات، وواجهت ضمائرهم ذلك العجز، وبدأ التفكير يسري بين قطاعات كثيرة من المجتمعات، يحمل ذلك السؤال الحائر: ما السبيل إلى تحرير الأوطان وعزتها؟
كان حسن البنا، رحمه الله، من رواد دار وكتبة الفتح وهو طالب في دار العلوم، وكان الحديث يدور بين الكبار ومنهم رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، وبعض الشباب منهم محمود شاكر وحسن البنا وعلي الطنطاوي في وجوب تأسيس جمعية للشباب المسلمين تضاهي جمعية الشباب المسيحيين، وتأسست فعلا في سنة 1927 لكنها لم تقنع حسن البنا لأن تركيبتها كانت أشبه بالهيكل الإداري، ومن المفارقات أن الأديب الكبير ظل يحمل إحنة على البنا وجماعة الإخوان المسلمين، بسبب تخليه عن جمعية الشبان المسلمين…
أسس حسن البنا جماعة الإخوان سنة 1928، وكانت تمضي على مهل إذ كان روادها الأوائل من عامة الناس، وأعمالها الأولى أقرب إلى منطق (الحفاظ على الأخلاق العامة) و(الخدمة ذات المنفعة العامة)، وابتعد البنا بجماعته عن استعداء المؤسسة الدينية التقليدية، كشيوخ الطرق الصوفيّة أو أئمة مساجد الأوقاف، فكان قطب جذب للجميع، فهو يدعوهم لحسن الأخلاق، والاعتزاز بالنفس دون تهور، وكريم الخلال في تؤدة ورفق، ولن تجد في الناس من يعارض هذا المسلك…
بعد سنوات التأسيس الأولى وبانتقال المكتب العام من الاسماعلية إلى القاهرة، بدأ حسن البنا يوسع دائرة تحركه، سواء على مستوى جغرافيا الاقاليم المصرية أو على مستوى برنامج الحركة، فقد شهد منتصف الثلاثينيات ترشح حسن البنا للانتخابات النيابيّة، والتي انسحب منها بعد مفاوضات مع حزب الوفد.
لقد كان ملف الاحتلال البريطاني، وتداعيات معاهدة 1936 تضغط على الشارع المصري مع بداية عقد الأربعينيات، وكانت ثورة القسام في فلسطين، وجرائم الصهاينة فيها تحرج المتحدثين باسم الأخوة الاسلاميّة، وفي ذلك المنعطف كان على البنا أن يقرر بين الحركة الثقيلة وإن افقدت الجماعة بعض بريقها، أو الاستجابة الفورية مع ما فيها من مخاطر!
الحقيقة أن البنا حاول المزاوجة بين الاتجاهين، بطء في الداخل واستجابة سريعة في الخارج، والخارج هو الاحتلال البريطاني من جهة وعبث العصابات الصهيونية في أرض فلسطين من جهة أخرى، واستقر رأيه في معالجة الملف الثاني بالاستعانة بالقوة، فأقدم على تأسيس (التنظيم الخاص)، وهذه الأذرع لم تكن بدعا في ذلك الوقت، فأغلب التنظيمات وحتى الأحزاب لها أذرعها الخشنة…
لكن من يضمن سلامة ازدواجية القيادة في تنظيم واحد؟ لا سيما أن أحد الرؤساء يملك القوة، ويملك منطق (الطاعة العمياء)، ولعل ذلك المسلك هو الذي سار بجماعة الإخوان وبمؤسسها إلى (صدام) عنيف انتهى باغتيال حسن البنا وحل الجماعة من جهة، وتعجيل الدخول في مواجهات متكررة مع الحكام، لأن الجماعة بعد حسن البنا، رحمه الله، خرجت إلى دنيا الواقع بمنظارين، منظار الاصلاح عن طريق التربيّة وهو نهج المؤسس، وطريق المغالبة وهو في بعض تجلياته منطق التنظيم الخاص.
وللأسف فإنه على الرغم من تعدد مراجعات جماعة الإخوان إلا أنها لم تصل للفصل في كل ملفاتها.