الـمربـــي والـمفـتــش والكاتـــب بشيــر خلف في حديــث حصري لـ «البصائر»/ أُحــيِّي دولا عربية تُصرُّ على الامتناع عن الاعتراف بـ «الكيان الغاصب»
نستضيف اليوم قامة تربوية وأدبية وثقافية سامقة تُغرد عاليا ببوصلة واضحة المعالم.. سيرته ناصعة البياض؛ وحافلة بالأمجاد في محطات تاريخية كثيرة؛ قاوم –رغم صغر سنه- وببسالة المستدمر الفرنسي من أجل الحرية؛ هو أحد مربي الأجيال بعد الاستقلال؛ اشتغل أيضا في «الإشراف التربوي».. من جيل عَصِيِّ الكسر على أهل الإغواء الفكري والاستلاب الثقافي لأنه من طينة الوطنيين الأحرار الذين تفخر بهم الجزائر.. مثل ما تجرع الألم زمن القيد؛ نهل من منابع المداد زمن الحرية؛ له عدة مقالات في الفكر والثقافة والنقد والأدب نشرها في صحف ومجلات جزائرية وعربية عديدة.. أصدر في مجال القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا مجموعات منها «ظلال بلا أجساد» و «القرص الأحمر»؛ واهتم أيضا بالكتابة للأطفال.. يصدر له الشهر الجاري كِتاب عنوانه «حياتي في دائرة الضوء.. سيرة ذاتية».. نَشِطٌ ثقافي بامتياز؛ حيث شارك في إنشاء جمعيات ولائية ووطنية تهتم بالحركة الأدبية في الجزائر؛ وأضاء دروب المبدعين بشموع لا تنطفئ. في هذا الحديث الحصري؛ يجيب المربي والمفتش والكاتب بشير خلف على جملة من الأسئلة.
حواره: جـمال بوزيان/
مَن بشير خلف؟
-بشير خلف من مواليد 28 جوان 1941 م بقمار بولاية الوادي، بالجنوب الشرقي الجزائري.. نشأتُ في أُسرة فلاحية كسائر سكان المنطقة، والحرب العالمية الثانية في أَوجِّها، حيث الثالوث الخطر الذي فتك بالجميع، من فقرٍ مدقعٍ، وأمراضٍ وجهْلٍ، وتسلِّط استدمار وحشيٍّ.. رفض والدي إدخالي المدرسة الفرنسية حينذاك.
لماذا؟
-خشية فرنستي روحًا وفكرًا.
كيْف تَرَى دَور والديْكَ في تربيتكَ؟
-بشير خلف بن بلقاسم ينحدر من عائلة فلاحية بسيطة، ما كانت تـملك نخيلا، ولا تجارة. نشأ في هذه الظروف البئيسة، حيث كان الوالد يعمل تارات عند مُلّاك النخيل، تلقيحا للنخل في موسم الربيع، أو رفْعًا وحمْلًا للرمال على الظهر في قُففٍ مصنوعة من جريد النّخْل منْ قاع غوطِ النّخيل صُعودًا إلى قمة كثيب الرّمْل كغيره من الُـمعْدمين أمثاله الْكُـثّرُ.. الْغـوْط شبيه بالهرم المقلوب، مقابل ثـمَنٍ زهيدٍ، أو مقابل عدّة أرباع من القمح، أو الشعير.. كما كان الوالد رحمه الله فلاحا عاديا في أرض صغيرة المساحة، خصّصها لزراعة الدّخّان «التبغ» كغيره مثل أغلب سكان قمار.
في تلك الفترة كان التَّعليم القرآنيُّ في الكتاتيب نَشِطًا.. هلْ سجَّلكَ والدكَ؟
-حرص والدي –كل الحرص- على إدخالي الكُتّاب لمّا كان عمري خمس سنوات، وحرص على أن أحفظ القرآن الكريم كاملًا، حدث ذلك في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي كسائر أبناء بلدتي، انضممْتُ إلى الكُتّاب في سنٍّ مبكرة، وكان التعليم تقليديا يُكتفَى فيه بتعليم الكتابة، وتلقين القرآن الكريم على اللوح، ومادة الكتابة «السّمق» وأداة الكتابة القلم الـمبْري من القصب دون زيادة.. حفظتُ القرآن الكريم، وصلَّيتُ به التراويح لسنتيْن متتاليتيْن للجماعة في الجامع الكبير «الطُّلْبة» بقمار شهر رمضان.
وماذا عن تعليمكَ المَدرسيِّ؟
-أنشأ الأولياء حينذاك «مدرسة النجاح»، وهي في ظاهرها مدرسة حُرّة تفاديَ غلقها من الاستدمار الفرنسي؛ إلّا أنها سرًّا تابعةٌ لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في اتجاهاتها، وبرامجها، وكتبها.. أدارها العلّامة المرحوم الفقيه، الشاعر، المصلح الشيخ محمد الطاهر تليلي حتى مرحلة استقلال الجزائر.
وهلْ حُوكِمتَ مِنَ السُّلطات الفرنسيَّة الاستدماريَّة؟
-بعد محاكمة دامت ثلاثة أيام في المحكمة العسكرية بعنابة، حُكِم عليَّ بــ 15 عاما سجنا، وعمري 19 عاما.
كيْف تَعاملتَ مع الـحُكم الصَّادر ضدَّكَ؟
تلقّيْتُ الحُكم بشجاعة لأني ما كنت وحدي، بل كان معي رفاقٌ حُكم عليهم بالإعدام، وآخرون بأحكام أقلّ، ومنهم ثلاث نساء، وكنتُ مقتنعًا أنّ الجزائر ستستقلّ، خاصّة وأنّ أيام المحاكمة تصادفت مع أحداث 11 ديسمبر 1960م التي انتفض فيها الشعب الجزائري في أغلب المدن الجزائرية بمظاهرات تلاحم فيها الشعب مع الثورة المسلحة، ممّا زلزل الاستدمار الفرنسي.
وبعْد ذلكَ؟
-قضيتُ من المحكومية سنتيْن في سجن تازولت «لامبيز» بباتنة، وأُفرج عنِّي بحُكم «اتفاقات إيفيان» في شهر ماي 1962م.
هلْ تعلَّمتَ على أيدي أساتذة ومُربِّين مسجونين حينذاك؟
-كنت من السبّاقين إلى الانضمام للتعليم داخل السجن، التعليم الذي أُجبرت على السماح به السلطات الاستعمارية من طرف الصليب الأحمر الدولي، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية.. في السجن أخذتُ قسطا كبيرا من التعليم على أيْدي أساتذة أجلاّء مسجونين أيضا، أغلبهم من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في سجن تازولت «لامبيز سابقا» بباتنة.
هلْ تَذكرْ بعض أسمائهم؟
-لمّا أنزلوني بسجن تازولت «لامبيز سابقا»، مضتْ غيرُ أيّام قليلة حتى عرفتُ أن فيه العديد من السجناء المفكرين، المثقفين، علماء ينتمون لجمعية العلماء كالمرحوم أحمد حمّاني، المرحوم الشارف، وغيرهم، وكذا عبد الله فاضل، وقيادات في جبهة التحرير الوطني، وجيش التحرير الوطني، وقيادات في أحزاب أخرى أُنشئت قبل ثورة التحرير.
من الحقوق التي تحصّل عليها السجناء من السلطة الاستدمارية، وضغوط الصليب الأحمر الدولي، «الحقّ في التعليم لمنْ رغب» باللغتيْن العربية والفرنسية، ومن واجب سلطة السجن أن توافق على منْ يتقدّم للتدريس من السجناء، أيضا توجّب عليها مدُّ كلّ متعلّم أسبوعيًّا بكراس 96 صفحة للعربية، وثانٍ للفرنسية، وقلمٍ أزرق، وآخر أحمر.
حَدِّثنا عنِ الفترة الَّتي تَلتْ خروجكَ مِن سِجن الاستدمار الفرنسيِّ؟
-انضممتُ للجيش الوطني الشعبي في شهر جوان 1962 م لتكون محطتي النهائية بهذه المؤسسة السيادية في الناحية العسكرية الثالثة ببشار، أين شاركتُ بصفتي جنديا في الحرب الجزائرية المغربية يوم الثامن أكتوبر عام 1963م التي دامت ستة أيام.
وأنا جندي شاركتُ في امتحان «الممرنين» للتعليم، فكان النجاح حليفي، ثم قرّرتُ مغادرة الحياة العسكرية؛ وقد عُرِض عليَّ البقاء في الجيش، والتكوين كضابطٍ سامٍ بالاتحاد السوفياتي؛ فآثرتُ التربية والتعليم بدلا من ذلك.
دخلتُ سلك التعليم عام 1964م بصفتي ممرّنا، وكان عليَّ أن أعوِّض حرماني من التعليم من جهة، وأرفع مستواي المعرفي، والمهني في علوم التربية، وعِلم النفس، وخاصة عِلم نفس الطفل، وبعد سنتين تحصّلتُ على شهادة الأهلية، ثم شهادة البكالوريا عام 1972م مترشحا حرًّا، فسجّلتُ في جامعة قسنطينة مباشرة؛ لكن لظروف بُعْد المسافة، والمسؤولية العائلية لم أواصل.. في عام 1978م شاركتُ في مسابقة تكوين مفتشي التربية، ونجحتُ فيها لأتخرّج بعد سنتيْن مفتشا متخرجا من مركز التفتيش بجامعة الجزائر حتى أكتوبر2001 م عام تقاعدي.
متى وكيْف بدأتَ الكِتابة؟
-بداية الكتابة كانت في 1972م حينما ظهرت في كتابة مواضيع تتعلق بمنطقة «وادي سُوفْ» كمشكلات النقل، والصناعات التقليدية، وغيرها، تُرسل هذه المواضيع إلى ركن القراء بصحيفة «المجاهد الأسبوعي»، وصحيفة «النصر» التي عُرّبتْ عام 1972 م.
بعد أن حبرتُ عدة مواضيع اجتماعية أرسلتُها إلى صحيفة «المجاهد الأسبوعي» التي كانت يومئذٍ هي وصحيفة «الشعب» تملآن الساحة المعرّبة، وأيضًا صحيفة «النصر» بدرجة أقلّ.. كانت صحيفة «المجاهد الأسبوعي» تنشر لي المواضيع الاجتماعية، وبدأت من خلالها أيضًا أتعرّف على القصة الجزائرية القصيرة المعاصرة، وأتتبع مسارها الموضوعاتي، والاتجاهاتي، والفنّي ممّا حرّك في نفسي نزعة الكتابة الإبداعية، وبالتحديد القصصية، ووهج ثورة التحرير المباركة لا يزال في أوجّه، فساعدتني الذاكرة التي أعادتني إلى هذه الأحداث.
بِمَن تأثَّرتَ؟
– تــــــأثُّرًا بـما كنتُ أطالعه في صحيفة «الشعب»، وصحيفة «المجاهد الأسبوعي»، ومجلة «آمال» بخاصة دفعني إلى المغامرة، نَعم أسميها مغامرةً، فلماذا لا أُدلي بدلوي مثل هؤلاء الذين تنشر لهم مجلة «آمال» حيث هناك من تنشر لهم في كل عدد، وهناك من تنشر لهم أحيانًا؟ كم كانت فرحتي كبيرة جدا، بل كانت مفاجأة لي وأنا أتطلّع إلى اسمي بجانب أسماء مثل: الجيلالي خلاص، عمار بلحسن، محمد أمين الزاوي، الدكتور خير الله عصّار، أحمد منور، عبد الحفيظ بو الطين، الحبيب السائح، مولود عاشور، بشير سعدوني، مصطفى فاسي، جروة علاوة وهبي، حميدة العياشي، واسيني لعرج وغيرهم.. كانت أول قصة تُنشر لي في المجلة في عدد فيفري 1972 م بعنوان «الأبيُّ»، وتنشر لي أيضا في العدد الواحد والعشرين بتاريخ (جوان-أوت) 1974 م عمليْن في عدد واحد.. قصة قصيرة في باب القصة بعنوان «القدر الساخر»، وقصيدة شعرية في باب الشعر عنوانها «صرخة جُرْحٍ»، ويتتالى نشْرُ القصص القصيرة لي بالمجلة في أغلب أعدادها المتوالية: 25 ،26 ،27 ،28 ،30 ،33،43،44… ولم تُرفض لي أيّ قصة.. إلى أن أصدرت لي مجلة «آمال» عددًا خاصًّا بـــــي رقم 39 بتاريخ ماي – جوان 1977م مجموعة قصصية تحمل عنوان «أخاديد على شريط الزمن» عدد به 19 قصة، وخمسُ قصص قصيرة جدا.. نُشرتْ المجموعة، ووُزِّعتْ في كل مناطق الوطن، وتلقّفها القرّاء، والعديد من كُتَّاب، وأُدباء تلك المرحلة لا يزالون يحتفظون بها، ويذكّرونني بها.
ماذا تَتناول أوَّل مجموعة قصصيَّة لكَ؟ وما ظروف كتابتها؟
-كُتبت قصص المجموعة السابقة على مراحل، وكانت الجزائر حينذاك دخلت في الثورات الثلاث: الزراعية الصناعية، الثقافية تعويضا للإنسان الجزائري عن مخلفات الاستدمار البشع، والتطلّع إلى حياة كريمة تستند إلى تكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية؛ فانتهج الكُتّابُ، المبدعون الأدب الواقعي الذي يعايش الواقع المعيش، فكانت قصصي في هذا المجال.
يجب أن تكون لديك موهبة فطرية في رواية الحكاية، والصياغة، وتطوير الحبكة الدرامية، واستحضار المشاعر، عليك أن تكون صبورا؛ إذ يستغرق الأمر سنوات طويلة قبل أن تكون روائيا ناجحا معروفًا.. وعلى الرغم من أن الروائي يكتب خيالا، فإن أفضل الروايات هي ما يشعر معها القارئ بالواقع، وتبدو معقولة حتى لو كانت خيالية؛ ولأن كتابة الرواية تعد عملا احترافيا، فيلزمك أن تراعي معايير النشر، وتتحدى عقبات الملل، والتصميم، والتشتت لتنجز الرواية بالمزيد من العمل والصبر والتصميم على الاستمرار حتى عندما تصطدم بالعقبات.
لا تأملْ أن تحقق روايتك مبيعات عالية، وتجلب لك دخلا كبيرا، إذ لا يكون هذا هدفَك لئلا تصاب بخيبة أمل. يجب عليك أن تتبنى فكرة أنك لا تكتب من أجل الربح أو المكافأة المادية، واجعل بناء الشخصيات وإحكام السرد والحبكة والحوار هدفَك الأساسي، وتدرب بما فيه الكفاية، وسوف يأتي الربح لاحقا حينما تقدم أدبا قويا ذا قيمة إنسانية عالية. وقد تستغرق عملية النشر سنوات، وينصح بعضُ خبراء كتابة الروايات أن تكون الكتابة وظيفة جانبية، واسْعَ إلى ضمان عملٍ، أو وظيفةٍ تمكِّنك من تحقيق دخْل يسمح لك بالحفاظ على لقمة العيش.. يـجب أن تقرأ الكثير لا يهم نوع الروايات التي تقرأها، سواء أكانت أدبا عربيا، أو عالميا، أو روايات لأدباء شباب أو كبار السنِّ، عليك أن تقرأ الكثير، وتستمرّ دون توقُّفٍ.
هلْ تَرَى تَطوُّرًا للنَّقد الأدبيِّ في العالَم العربيِّ؟
-في رأيي الشخصي لــــم يتبلور لحدّ الآن نقْدٌ أدبيٌّ عربيٌّ مستقلٌّ عن الآداب الأخرى.. إن نقدنا المعاصر ما يزال حتى الآن في مرحلة النقل والاتباع للآليات النقدية الغربية، وإجراءاتها، وهي في أغلب الأحيان لا تُطبق مثلما نُظِّر لها في بيئتها وتربتها، ولعل هذا ناتج عن عدم الفهم الدقيق لهذه الآليات، فضلاً عن سوء الترجمة في بعض الأحيان، والخلط بين المناهج في منهج معين، وكذا الخلط بين الإجراءات التحليلية للأجناس الأدبية، في هذا الشأن يقول الشاعر، والناقد عبد الحميد هيمة: (.. أهم إشكالية يعاني منها اليوم نقدنا العربي عامة والجزائري خاصة، وهو ضعف حضور النقد التطبيقي، الذي يستنطق النصوص، ويسْبر أغوار الأعمال الأدبية، ومن ثمة يُــسْهم في تطور الإبداع الأدبي، وإن كنا لا ننكر أهمية النظرية والتنظير في النقد، فإننا نعتقد أن النقد الحقيقي هو الذي يتجه إلى النص، الذي هو جوهر العملية الأدبية..).
ولعل هذا ما أشار له تودروف في كتابه الأدب في خطر، عندما قال مخاطبا النقاد: (.. إن الأدب في خطر لأننا في المدرسة أصبحنا لا نتعلم عن ماذا تتحدث الأعمال الأدبية، وإنما عن ماذا يتحدث النقاد.. مشكلة أخرى تواجه نقدنا المعاصر وهي طغيان النقد الشكلاني الذي يغتال الأدب لا بدراسة نصوص غير أدبية؛ بل بجعل الأعمال الأدبية مجرد أمثلة إيضاحية لرؤية شكلانية، أو عدمية، أو أنانية للأدب مُغْــرقة في الغموض قد لا يفهمها إلا الباحث المتخصص.. وهذا أدى إلى تعالي هذا النقد عن الجمهور العام للقراء، والذين يهمهم من قراءة الأدب معرفة علاقة العمل بشروط إنتاجه، وسياقاتها، ومعرفة مواطن تميز هذه الأعمال الأدبية، ومقدار إضافتها إلى النوع الأدبي؛ ومن ثمّ حدث التباعد، وازدادت الهوة بين النقد الجامعي، وجمهور القراء، والمبدعين..).
بِصفتكَ أحد مُؤسِّسي «الجمعيَّة الوطنيَّة الثَّقافيَّة الجاحظيَّة» رفقة الرِّوائيِّ الطَّاهر وطَّار وغيره؛ وعضوًا في «اتِّحاد الكُتَّاب الجزائريِّين».. كيْف تَرَى أوضاع هذيْن الصَّرحيْن حاليًا؟
-جمعية الجاحظية فقدت إشعاعها، ومكانتها بمرض مؤسسها، ورئيسها المرحوم الطاهر وطّار، بعده زلزلتها صراعاتُ رفاقِ المرحوم حول رئاستها، والمرحوم محمد تين سعى جادًّا إلى تمكينها من المواصلة، نجح نسبيا في الندوات الأسبوعية، وفشل في مواصلة طباعة الكتب، وبعد مرضه، ورحيله يبدو أنها توقّفت نشاطًا، فهيئتها المديرة لم تتجدّدْ؛ أمّا اتّحاد الكتاب الجزائريين واقعيا غير موجود، هيكليا موجود مركزيا؛ بعض فروعه ببعض الولايات تنشط أحيانًا مركزيا بالرغم من كثرة الأحداث المتسارعة بالجزائر وخطورتها، وتنوّعها، والاتحاد يمثل النخب المثقفة من المفترض أن يكون في الصدارة؛ لكن لا أثر له.
ما رأيكَ في مشروعات تنمية القراءة لدَى الإنسان العربيِّ؟ وماذا تَقترح؟
– يبدو لي في الحالات الطبيعية أن القراءة لا تحتاج إلى مشاريع تنمية إلّا لدى متعلمي محو الأمية؛ أمّا غير ذلك فهي تبدأ مع الطفل في المنزل من خلال التنشئة الأسرية، ومعايشة الوالديْن، والإخوة في ممارسة القراء، ومساعدة الأبناء على ممارستها تدريجيا، ثم في الروضة، فمراحل التعليم المتصاعدة من خلال التعلم، واكتساب المعارف، وحصص المطالعة التي يُبدأُ بها بداية من السنة الرابعة ابتدائي كحصّة مستقلّة.. تنمية القراءة لدى الإنسان فيما بعد يواصلها بنفسه، وتنميتها لدى المجتمع يكون بالتشجيع على توفير الكتب بأسعار معقولة، وتقريبها للمواطن بتوفير المكتبات العمومية، وبالمنافسات القرائية للكتب، والتحفيز بالجوائز، والترشيد بواسطة الإعلام السمعي، والمرئي؛ وإقامة المَعارِض محليا، وجهويا، ووطنيا؛ لكن علينا أن نكون واقعيين، أمة العرب أقل الأمم قراءة، أقل الأمم اهتمامًا بالمطالعة قياسًا بالشعوب والأمم الأخرى، فالإحصاءات الخاصة بالقراءة والمطالعة والصادرة من منظمات محترمة لها مصداقية فيما تقول مثل منظمة الفكر العربي، ومنظمة «اليونيسكو» تؤشر على حجم الكسل، وقلة الاهتمام بالمطالعة لدى المواطن العربي لنظيره الأوروبي، والأمريكي، وحتى «الإسرائيلي».
في ظلِّ الظُّروف الحالية على مستوى العالَم العربيِّ؛ هلْ تَرَى الثَّقافة لا تَزال قادرة على خدمة الأُمَّــــة والمُشارَكة في البِناء الحضاريِّ العالَميِّ؟ وكيْف؟
-إنّ فكرةَ وضع حلولٍ، أو اقتراحاتٍ لوجود علاجٍ مناسبٍ لتحدياتِ الحداثة التي تواجهُ الثقافة العربية، برأيي لن تؤدي إلى الوصولِ لأي نتيجةٍ مفيدةٍ في الوقت الراهن، وذلك لأن العلاج الحقيقي لهذه التحديات مرتبطٌ بكميةِ المخزون الفكري، والثقافي عند الإنسان العربي، وعندما يدركُ كُل عربي في كافةِ أنحاء العالم هذه التحديات التي تواجه ثقافته، عندئذٍ من الممكن الوصول إلى حلٍ جذري يساهمُ في إعادةِ الثقافة العربية إلى مسارها الصحيح.. الخشية على ثقافتنا العربية، تبدو أمرا حيويا في هذه المرحلة بالذات نظراً لجسامة التحديات التي تواجهنا كأمة وكهوية وثقافة، خاصة أن الثقافة تشكل في واقع الأمر أهم خصائص الأمم، بما تحويه من عناصر مثل اللغة والعادات والتقاليد، وغيرها من الخصائص التي تشكل في نهاية المطاف هوية الأمة.
وجِّه رسالة إلى وزراء الثَّقافة العرب؟ وما اقتراحاتكَ لهم؟
-كلُّ وزارة ثقافة في العالم العربي لها أهدافها، ومهامّها وفق سياسة بلدها، كما لكل وزارة أجندتها الخاصة، فبعضها بعد «التطبيع مع الكيان الصهيوني»، اختارت التعاون معه في عديد المجلات الثقافية، وبعضها الخيار يقاطع كل ما له علاقة به؛ فمن الصّعْب توجيه رسالة موحّدة إلى كلّ وزراء الثقافة العرب، إنما في كلّ الحالات هناك ما يربط دول العالم العربي، وعناصر رئيسة تجمعها كأمّة تختلف عن باقي الأمم يجب دعْمُها، والمحافظة عليها: العوامل الطبيعية، العامل التاريخي، اللغة، التراث الحضاري، وغيرها وهي كثيرة كالتعاون الثقافي، الاقتصادي، السياحي، الدفاع المشترك عن الأمّة العربية، وهُوّيتها.
ما عنوانُ الكِتابِ الَّذي قرأتَه كاملاً أكثر مِن مَرَّة؟ ولِماذا؟
-«القرآن الكريم» مئات المرّات، ولا أزال، ولم أشبعْ منه، «فقه السُّنَّة» لسيد سابق، «منهاج المسلم» لأبي بكر جابر الجزائري، «صفوة التفاسير» للسيد محمد علي الصابوني، «يسألونك في الدين والحياة» للسيد أحمد الشرباصي؛ أمّا الكتب الأخرى فمنها ما رافقتني، ولا تزال إلى يوم الناس هذا وهي كثيرة في مكتبتي الشخصية التي أعتزّ به، وأعدها جزءًا منّي، ورفيقة حياتي.. مكتبة ثريّة متنوّعة، متجدّدة بالعناوين الحديثة، ومن الكتب التي قرأتها أكثر من مرّة: «مقدمة ابن خلدون»، مؤلفات الفيلسوف زكي نجيب محمود، مؤلفات عبد الله شريط، عبد المجيد مزيان، مؤلفات أبي القاسم سعد الله خاصة: «خارج السّرْب»، «حبْرٌ على ورقٍ»، «حاطب أوراق»، «تاريخ الجزائر الثقافي» وغيرها.
ما آخرُ كِتابٍ قرأتَه أو تَقرأه حاليًا؟
-رواية «تاغيت» للدكتور باديس فوغالي، رواية «رسول السماوات السبع» للروائي إبراهيم الكوني، رواية «ما لم تحكه شهر زاد القبيلة» للروائية الجزائرية فضيلة بهيليل.
اشتغلتم بالتَّعليم مُدَّة طويلة؛ وارتقيتم مُفتِّشًا للتَّربية والتَّعليم بولاية وادي سوف.. ما إرشاداتكم للمُعلِّمين والـمُفتِّشين مِنَ الجيل الجديد؟
رسالة المُـــربّي، المعلم عظيمة جدًّا، فهي أُمّ المهن. المعلم أعظمُ وأجلُّ من أن ينحصر دوره في زاوية التدريس الضيقة، فالتدريس جزْءٌ من التربية، فالمعلّم هو الذي يبنى المتعلمَ الذي يجلس أمامه فكرا، وروحا، وخلُقا فيخرج من تحت يديه الطبيب، والمهندس، والمحامي، والأستاذ الجامعي، لذا فمهنة التدريس هي أهمّ المهن، وأشرفها؛ يكفي المعلم فخرا، وشرفا أن مهنته مهنة الأنبياء، والرسل، والمصلحين.. المهنة التي تتطلّب الإعداد القاعدي المعرفي الجاد في مجالات المعرفة الإنسانية، كما العلوم الطبيعية العلمية، والإعداد المهني في معاهد إعداد المدرّسين، ومواصلة ذلك بعد التخرّج، والشروع في التدريس، الإعداد الجيّد، والجاد في علوم اللغة، وعلوم التربية، وعلم النفس، سيّما عِلم نفس الطفل، وعلوم تطبيق الموادّ التعليمية، وغير ذلك ممّا يدعّم الكفاءات التدريسية للمعلم.
التفتيش «الإشراف التربويُّ» لصيق بالعملية التربوية التدريسية كمكوِّنٍ، ومُقيِّمٍ، ومُقوِّمٍ، فالمشرف التربوي «المفتش» خبير فني يساعد المعلمين على التطور، والنمو المهني،كما أنه يقوم بحلّ ما يواجههم من مشكلات تربوية، تعليمية؛ ويقدم العديد من الخدمات الفنية التي تهدف إلى تحسين أساليب التدريس، وجعل العملية التربوية تسير في المسار الصحيح. فــعلى المشرف التربوي تشجيع المعلم مهما يكن أداؤه؛ فلكل معلم مفتاح، وعلى المشرف اكتشافه ليدفعه للأمام بأسلوبه، وتشجيعه؛ كما على المشرف تحفيز المعلمين المتميزين، وإبراز جهودهم في الميدان بتكريمهم بشهادات تقدير، والإشادة بهم في اللقاءات والاجتماعات.. على المشرف أن يبني علاقة ايجابية بينه وبين المعلمين بالتواصل الدائم في أفراحهم، وأحزانهم، وفي الأعياد والمناسبات لتقوى العلاقة وتزداد، وأن تكون العلاقة بين المشرف والمعلم مبنية على المودة، والاحترام، والتقدير.
ألا يُؤثِّر التَّعليم عن بُعد مِثل «مِنصَّات تعليميَّة إلكترونيَّة» وعبْر «التِّلفزيون» على مردوديَّة التَّلاميذ؟
-في رأيي الشخصي يبقى التعليم الحضوري أهمّ تحصيلا، فالعلاقة القريبة بين المعلم، والمتعلم، والأستاذ والطالب تنبني أكثر على القُرب، والتأثير النفسي، وملامح الوجه، وأسلوب التخاطب، والتحاور، والتوضيح، فالمردودية أرفع لأنها مستندة إلى التقييم، والتقويم عن قْرْبٍ.. ضفْ لذلك أن متطلبات المنصّات التعليمية غير متوفّرة في كل المؤسسات التعليمية، والأغلبية من الأُسر الجزائرية لم تكتسب خبرة التعليم عن بُعْدٍ، ولا تملك وسائله؛ بل هي عاجزة عن اقتنائه.. نعم لهذا التعليم، ونحن سائرون إليه في السنوات القادمة، وهو من نِعم الثورات العلمية، وثمرات التكنولوجيا، إنما علينا ألّا نُحدث اهتزازات لدى متعلمينا؛ بل نتدرّج وفق إمكاناتنا، واستعداداتنا.
سعيدٌ بكَ اليومَ؛ شكرًا جزيلاً لكَ؛ كرمًا لا أمرًا؛ اختمِ الـحوار.
-سعيد جدًّا بهذا الحوار الثقافي الذي أجريته معي، حوار ثريٌّ حفّزني على نبْش أرشيفي، ووخْز الذّاكرة، بقدْر ما كانت الإجابات مُتْعبة تطلّبت التدقيق والتركيز، فإنها كانت مُمْتعًة، جعلتني أُبـْحر في مجالات معرفية متنوّعة، ومـُحبّبة إلي.. شكرا لك الأستاذ جمال بوزيان، فقد أتحتَ إليَّ هذه الفرصة الجميلة، وأتقدم بجزيل الشكر والتقدير والامتنان لصحيفة «البصائر» التي تمثل لكل جزائري حر أصيل رمزَ هُوِية الأمة الجزائرية ماضيا وحاضرا ومستقبلا.