الأستاذ الدكتــــــــور مسعـــــــود بودوخـــــــة للبصائر: ليس أخطر على الأمم والناشئة من غياب ثقافة الجد والمجاهدة، وشيوع ثقافة الاستسهال والاستسلام

حاوره: أ.د. عبد الملك بومنجل/
الأستاذ الدكتور مسعود بودوخة من خيرة كتاب الجزائر وأساتذتها الجامعيين وباحثيها الأكاديميين. يتمتع بوعي فكري بالغ وحس حضاري عال، ويقدّم إسهامات قيّمة في تأليف البحوث اللغوية والبلاغية الرصينة، والمشاركة المتميزة في المؤتمرات العلمية الوازنة. وحرصا على الإفادة من خبرته وعلمه وسداد رأيه في المشكلات التي تعصف بالأمة كان لنا معه هذا الحوار:
كيف تقدم الدكتور مسعود بودوخة إلى قارئ لا يعرفه؟
– مسعود بودوخة من مواليد 1973 ببلدية حمام السخنة ولاية سطيف. من أسرة تنتمي إلى البوازيد الذين يعود نسبهم إلى سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه. نزح والد الجد رفقة بعض أفراد العائلة من منطقة الدوسن ببسكرة إلى منطقة سطيف في سبيعينيات القرن التاسع عشر بعد انتفاضة البوازيد في منطقة الدوسن ضد الاستعمار الفرنسي، وكان من نتائج إخماد تلك الانتفاضة أن أبعد كثير من أعيان القبيلة إلى مناطق مختلفة في الجزائر.
زاولت تعليمي الابتدائي والمتوسط بمسقط رأسي، ثم تابعت دراستي الثانوية بمدينة العلمة، وحين حصلت على شهادة البكالوريا في شعبة العلوم الطبيعية التحقت في البداية بمعهد الهندسة الميكانيكية ببومرداس، ولكنني لم ألبث أن تحولت إلى معهد اللغة والأدب العربي بجامعة سطيف، حيث تغلّبت لدي الرغبة في دراسة العلوم الإنسانية، وكان من توفيق الله لي أن استكملت في المرحلة الجامعية حفظ القرآن الكريم، ثم التحقت بجامعة الجزائر بعد نجاحي في مسابقة الماجستير سنة 1996 . وفي سنة 2000 وظفت بجامعة بجاية، حيث اشتغلت هناك خمس سنوات لأتحول بعدها إلى جامعة سطيف، ولا أزال أشتغل بها.
كانت بدايات نشأتي ضمن سياق شهد تحولات فارقة في الجزائر وفي العالم، ولعل من أبرز نتائج تلك التحولات بروز ظاهرة الصحوة الإسلامية التي عشنا زمنها الجميل ونحن بين الطفولة والشباب، وعلى الرغم من الخيبات والانتكاسات التي حدثت لهذه المسيرة في بلدنا وفي العالم، فإنا تأثرنا بفكر الصحوة أيما تأثر وغرست فينا معاني وقيما نحسبها الآن جزءا من كياننا النفسي والروحي والاجتماعي، والحمد لله على نعمته وفضله.
ربما كابد أكثر من بلغوا مراتب عالية في العلم، متاعبَ جمّة ومصاعبَ شديدة قبل بلوغ هذه المراتب، لاسيما في بلداننا العربية. كيف تنظر إلى جدلية اليسر والشدة في تكوين الشخصية الناجحة؟
-شاءت حكمة الله أن يقترن النجاح بضروب من المكابدة والمشاق، وألوان من المصاعب والبذل والتضحية، لا سيما النجاح في طريق العلم الذي لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك كما قال أهله، ولا شك أن طريق العلم في البلاد العربية أكثر تطلبا للتضحية، حيث أريد لثقافة التزهيد في العلم والاستهانة بأهله أن تشيع بين الناس، وتروج ثقافة الاستسهال والمظاهر المادية التافهة لتملأ قلوب الناس وعقولهم، ولا عجب بعد هذا أن تندر معاني الصبر والتضحية وثقافة التخطيط وطول النفس لدى شبابنا، وأن تعيش شعوبنا وبلداننا على ما ينتجه الآخر، بل ووفق ما يخطط الآخر أيضا.
وفي هذا الزمن الذي تجاهد فيه الأمم الأخرى لتضمن لنفسها موضعا محترما في التاريخ زمانا ومكانا نرى الشعوب الإسلامية وقد حيل بينها وبين أسباب القوة وعزائم الأمور، تستجدي قوتها ودواءها وسلاحها من غيرها، بل وربما استجدته من أعدائها. وهذا أثر من آثار تغييب قيمة المجاهدة بمعناها الواسع الذي يعني استفراغ الجهد للقيام بحقوق الأمانة وشروط الاستخلاف وأسباب التمكين.
وإذا كانت ظروف المشقة وصنوف الشدائد التي عاشتها الأجيال السابقة بما شهدته من وقائع الاحتلال وما استتبعه من فقر وجهل ومعاناة قد صقلت نسبة كبيرة من تلك الأجيال فنشأت ضمن عوامل دفعتها إلى المثابرة والحزم، فإنا نشهد الآن أجيالا جديدة لا ترى النجاح إلا ضربة حظ لا ضرورة فيه لحمل النفس على ما تكره، ولا مكان فيه لتخطيط يقترن فيه حسن التبصر بجميل التصـبّر..
وليس أخطر على الأمم والناشئة من غياب ثقافة الجد والمجاهدة والصبر والمصابرة، وشيوع ثقافة الاستسهال والاستسلام، وعدم الوعي بأهمية الوقت وقيمة الزمن.
إن عناصر الحضارة كما بينها مالك بن نبي هي الإنسان والتراب والوقت، وما دامت قوانين التراب والوقت هي هي لم تتبدل فإن علينا أن نلتمس الخلل في الإنسان نفسه، فهو الذي يحوّل ما سخّره الله له في الكون ضمن حيز الزمان المتاح إلى حضارة، أو يعيش عالة على حضارة غيره إذا أهمل مواهبه وتجاهل رسالته، وهذا المعنى الخطير هو ما ينبغي أن يغرس في نفوس الأجيال من أن الحياة أمانة وأن النجاح سبيله المجاهدة والمكابدة، وأن قليلا من مرارة الصبر والكفاح الذي يُعقب راحة الفوز والنجاح، خير وأبقى مما يركن إليه الإنسان من راحة الدعة والخمول الذي لا يورّث إلا الحسرة والأفول.
الدكتور مسعود بودوخة أستاذ جامعي، وباحث صاحب مؤلفات عديدة، وصاحب إجازة في تجويد القرآن الكريم وله في هذا المجال سمعة طيبة. لنبدأ من جهة موقعك الجامعي: كيف تقيّم وضع الجامعة والبحث العلمي في الجامعة الجزائرية؟
-حال الجامعة لا يختلف عن حال القطاعات الأخرى، هي جزء، والجزء يأخذ حكم الكل في الغالب. ومع أن المفترض في الجامعة أن تكون مركز القيادة والتخطيط والإصلاح والتوجيه، بوصفها مكانا لأهل العلم والمعرفة في شتى الاختصاصات، فإنها – ومع الضربات الموجعة التي وجهت إليها- صارت هي نفسها بحاجة إلى من يصلحها ويخرجها من حال الترهل والضعف والتيه.
إن ضعف المستوى في الجامعة الجزائرية حقيقة لا مراء فيها ما دامت الشواهد قائمة وبارزة للعيان، فإذا تخرج طالب في تخصص اللغة العربية مثلا وهو لا يكاد يحسن تركيب جملة فضلا عن إعرابها، ولا يكاد يحسن قراءة نص قراءة صحيحة فصيحة فإننا لا نتحدث معها عن ضعف للمستوى فحسب بل عن ما هو أدهى، وما قيل عن تخصص اللغة يقال عن التخصصات الأخرى، ونحن هنا نتحدث عن الأغلب الأعم.
كما أن الحديث عن ضعف مستوى الطالب يقود لا محالة إلى ما يجب أن يدرك من ضعف مستوى الأستاذ أيضا، و هل أستاذ الغد إلا طالب اليوم. ومع أنه لا يصح أن نحمّل المكوّن جميع أوزار ضعف المتكوّن إلا أن العلاقة بينهما جدلية بشكل ما…
ومن أكثر العوامل التي أثرت على مستوى التكوين والتحصيل مشكلة الأعداد المتزايدة للطلبة عاما بعد آخر، هذه الزيادة المطّردة ليست ناتجة عن ارتفاع حقيقي لمستوى الطلبة في المرحلة الثانوية وفي شهادة البكالوريا، ولكنها ناتجة عن عوامل لا تمت بصلة للعلم أصلا. عوامل تقررها السياسة وحسابات السياسيين…
هذه الزيادة المطردة في عدد الطلبة من عام إلى آخر أثرت على مستوى التكوين تأثيرا بالغا، حيث صار الحرص على استيعاب العدد المتزايد هو الهاجس الأكبر، وفي غمرة هذه التحولات الكمية غابت أولوية النوع والفاعلية، ووجدنا أنفسنا أمام مفارقة حقيقية؛ فالهياكل والمنشآت عملاقة ولكن المنجز الفعلي تقزم، بخلاف ما لاحظناه في بلدان أخرى حيث يبهرنا النشاط العلمي والبحثي الذي يفوق الهياكل والمنشآت…
ومن بين مظاهر الشكلية التي جنت على التعليم الجامعي وهي ناتجة هن التحولات الاجتماعية والثقافية غير الطبيعية التي يشهدها المجتمع الجزائري عزوف الطالب عن التحصيل العلمي الحقيقي الذي يبني شخصيته العلمية، وحرصه على كسب العلامة فحسب، إذ العلامة تضمن له الانتقال والشهادة، وشتان بين تحصيل علمي حقيقي وبين تحايل هدفه مراكمة العلامات كما تراكم نقاط المباريات الرياضية، وقد يحضّر الطالب للامتحان بحفظ معلومات يوظّفها في الإجابة، ولكن هذه المعلومات لا يزيد عمرها في ذهن الطالب على عمر الامتحان.
إذا كان التلقين مقبولا في مراحل التعليم الأولى فإنه غير مقبول البتة في مرحلة متقدمة كالجامعة التي يفترض أن تكون محضنا لتكوين شخصية الباحث القادر على تحليل المعلومات والمعطيات التي بحوزته وفق منهج علمي يمكّنه من الإبداع وتطوير مسيرة البحث، ومع هذا نلاحظ تفشي ظاهرة التلقي السلبي لدى الطلبة وعدم قدرتهم بل وعدم حرصهم على إعمال الفكر في ما يتلقّون، وبدل أن يكون الأستاذ موجّها إلى مصادر المعرفة ومفاتيحها ومناهج معالجتها والقضايا المتّصلة بها يجد نفسه أمام طلبة لا يعنيهم إلا أن تملى عليهم معلومات لا يفقهون أكثرها، يستظهرونها للامتحان ثم ينسونها، وهذا المنهج لا يصنع باحثا ولا مبدعا…
إن أخطر ما يهدد تطوير التعليم العام والتعليم الجامعي بصفة خاصة هو طغيان الصور والأشكال وتناسي الغايات والمضامين، والمقصود بهذا أن توجد الجامعات والشهادات والمخابر ومجموعات البحث ويغيب الإنتاج العلمي الحقيقي الذي ينتفع به المجتمع ويسهم في حل مشكلاته.
وما ذكرناه من انحصار همة الطالب في العلامة التي تضمن له الانتقال والشهادة وعزوفه عن التحصيل العلمي الحقيقي وجه من أوجه هذه الشكلية التي تجني على روح العلم والبحث، وما قيل عن الطالب يقال عن الأستاذ الذي قد يؤسّس فريق بحث ثم لا يكلف نفسه عناء الاجتماع بفريقه مرة في السنة، أو يشرف على عشرات المذكّرات والرسائل ثم لا يقرأ مما أشرف عليه شيئا.
ولا يمكن الحديث عن التعليم الجامعي ومشكلاته دون التطرق إلى أهمية العوامل المادية المتصلة به مما يخص الطالب والأستاذ وغيرهما، فالظروف المعيشية والمهنية للأستاذ وظروف الطالب في المكتبة والنقل والإيواء والإطعام كلها عوامل مؤثرة تأثيرا بالغا لا محالة، فالطالب الذي يتقاسم غرفة مع عشرة من زملائه، ثم يخرج إلى المطعم فيمكث ساعة أو ساعتين في الطابور حتى إذا جاء طبقه لم يجده شيئا، ثم لا يسمح له بدخول المكتبة إلا سويعات في الأسبوع ،لا يمكنه أن يمارس مهمته بنجاح، وكذلك الأستاذ الذي لا يجد في بيته غرفة لكتبه وحاسوبه ومكتبه وأوراقه، أو يضطر للاقتراض قبل نهاية الشهر والجري وراء الاستكثار من الساعات الإضافية كل ذلك مؤثّر لا محالة على إنتاجه ومردوده.
ماذا تقترح من حلول للخروج من هذه الحــــال؟
– كلمة السر في كل نجاح هي وجود مشروع واضح المعالم يستنهض الهمم، ويجمع الجهود ويوزّع الطاقات بحسب الأهداف والغايات. وهذا ما نفتقده إذا تحدثنا عن الجامعة كغيرها من القطاعات في بلدنا.
عملية التكوين والتعليم والبحث تتطلب تعاونا وتكاتفا للجهود بين أطراف العملية والقائمين عليها أو المعنيين بها؛ فهي ثمرة تعاون وتعامل بين الطالب والأستاذ، وبين الطلبة أنفسهم، وبين الأساتذة والباحثين أيضا، وبين هؤلاء والإدارة، بل وبين الجامعة ومحيطها الاجتماعي والاقتصادي وغير ذلك…ومن هنا فإن حسن العلاقة والتعامل بين هذه الأطراف جميعا شرط ضروري في نجاح عمليات التكوين والبحث، ولكننا كثيرا ما نفتقد هذا الشرط بين طرفين أو أكثر من هذه الأطراف فيسود جو اللاثقة وتتبعثر الجهود وتتعطل مشاريع كثيرة كان يمكن أن تنجز …
وإذا كان تراكم المعرفة العلمية وتشعبها مما يحتم التخصص في فرع من فروعها وهذه ضرورة واقعية ومنهجية، فإن المشكلة التي نتجت عن التخصص هي غياب التكامل بين فروع المعرفة المختلفة لا سيما الفروع والتخصّصات المتقاربة فنجد الطالب يدرس مقاييس متنوّعة ضمن التخصّص الواحد دون أن يدرك الصلات القائمة بين هذه المعارف والمقاييس، مع أن هذا التمثل والإدراك مما ييسر عملية الاستيعاب ويحسن مردودية التكوين.
ولا بد من الإشارة هنا إلى مشكلة من أبرز المشكلات التي يعاني منها التعليم الجامعي وهي هجرة الإطارات الجامعية إلى خارج الوطن، هذه الهجرة هي استنزاف يكلف البلد والمنظومة الجامعية خسارة مزدوجة، فهذه الإطارات المهاجرة كلف تكوينها وقتا ومالا وجهودا معتبرة، حتى إذا بلغت مرحلة النضج والعطاء شدت الرحال إلى دول أخرى أكثر تنظيما وثراء، ولكنها لم تصرف في تكوين هذه الإطارات شيئا، وهذه مفارقة يصعب التخلص منها، ولكن يمكن التقليل من مظاهرها بأن تستوعب هذه الكفاءات وتعطى حقها في الحياة الكريمة التي يثمّن فيها جهد المجتهد وعلم العالم وكفاءة الكفء، لا سيما وأن العلم كان ولا يزال سلعة عالمية تتبارى الدول والهيئات للظفر بها وبحامليها.
الأستاذ والباحث في مجال العلوم الإنسانية يتحمل مسؤولية كبرى في تشخيص أمراض الأمة، ووصف دوائها، وتوجيه المجتمع إلى طريق الخلاص. هل ترى نخبتنا العلمية تمارس عملها من واعية بهذه المسؤولية، وهل ترى المرجعية المعرفية في مجال العلوم الإنسانية تساعد على تحرير الأمة من التبعية؟
-جاءت رسالة الإسلام فكانت نورا أشع على العالم، فأخرجت أقواما من وهدة الجاهلية إلى نور الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وعرفت أمة الإسلام خلال تاريخها فترات مد وجز، تفاوتت فيها أحوالها واستطاعت – مع ذلك – أن تستوعب كثيرا مما ألمّ بها، وحوّلت أكثر هزائمها إلى انتصارات حضارية. وسبب ذلك أن روحها كانت حية، وبنيانها كان متماسكا، وحضارتها كانت هي الأعلى.
ولكنّ الأمة العربية الإسلامية عاشت في القرون الأخيرة ظروفا حالكة لا تزال تتجرع تداعياتها، ذلك أنها واجهت هزيمة حضارية تراكمت أسبابها على مر الزمن، وفقدت الأمة خلالها حيويتها الحضارية التي كانت تميزها، ووقعت بين فكّي ضعف الأبناء وكيد الأعداء، وحق عليها قول نبيّها صلى الله عليه وسلم: «توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قيل: أو من قلة يا رسول الله؟ قال: لا أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل».
وتزامن ضعف المسلمين وتقهقرهم في مجال الفكر والعلم وأسباب القوة والمدنية مع تقدّم للغرب في هذه المجالات بعيدا عن الدين والإيمان… ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعدّاه إلى أن استُلب كثيرٌ من المسلمين وكتابهم ومفكروهم من قبل حضارة الغرب وقيمها، وأصبحوا من الدعاة المتحمّسين إليها، الناقدين الناقمين على قيم دينهم وحضارتهم في لبوس من التجديد زُيّن لهم.
وقام هؤلاء الدعاة الحداثيون بقياس خاطئ، وأرادوا أن يستنسخوا ذلك الصراع الذي قام بين الكنيسة ورجال العلم، فتوهموا خصاما حتميا بين التقدم العلمي والدين الإسلامي، فطفقوا يبشرون بدين الحضارة الغربية الجديد (الحداثة) ويغمزون الإسلام وقيمه من طرف خفي وجلي، فزادوا أمّتهم رهقا، واستحدثوا أسئلة لم تطرح، وخاضوا في مشكلات لم تقع، فأبعدوا النجعة أيما إبعاد.
وكان هذا المسلك الخطير الذي سيقت الأمة إليه عنوة هو ما عقّد أمر الإصلاح، وكبح النهضة الحضارية المنشودة، ذلك أن وقائع التاريخ الإسلامي أثبتت أن كل محاولة للنهوض الحضاري لا تتأسّس على الدين، ولا تستند بوضوح إلى روحه ومقاصده محكومة بالفشل، لأنها تضلّ حينئذ عن سر استنهاض قوى الأمة الكامنة، وروحها القابلة للانبعاث متى أدركتها شروطه.
لقد ارتبطت الحضارة الغربية الحديثة بمفهوم الحداثة وأعلت من شأن العقل بعد ذلك الصراع المرير مع الفكر الكنسي الذي ظل يقدم نفسه للناس على أنه الدين، فكان من الطبيعي وقد انتصر رجال العلم على الكنيسة المتحالفة مع الإقطاع لاستعباد أبدان البشر وعقولهم أن يعدوا الدين عدوهم الأول والأخطر، ولما لم تكن حال المسلمين تغري بالنظر في دينهم، انصرف قادة الغرب عن كل دين سماوي، وفي خضم سياق من الكشوف والمخترعات التي هدى إليها العقل استهوتهم فكرة الاعتماد على العقل مطلقا في تدبير كل شأن، فاتخذوا العقلانية مذهبا وشعارا. وكان ظنهم بالحداثة والعقلانية أن ستخرجان الإنسان من طور الجهل والضعف والشقاء إلى طور السعادة والقوة والاكتفاء، حتى إذا انكشف ما اعتقده دعاة الحداثة العقلانية غاية وجدوه وهما، وبات ما تصوّروه راحة لهم هما وغما، وبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون. ولكن الوثوقية الزائفة التي تعامل بها دعاة الحداثة الغربيون مع الدين صارت عقيدة راسخة بين الجماهير هناك، بحيث لم يعد مطروحا ولا مسموحا أبدا التفكير في مراجعة الموقف أو تعديله من الدين أو البحث عن طريق آخر غير طريق التنكر للدين وازدرائه. ونشهد من حين لآخر أصواتا تحذر من مغبة هذا الطريق الخطر الذي سارت فيه حضارة الغرب تحاول أن تلفت الأنظار إلى الهاوية السحيقة التي يؤدي إليها هذا المسلك المتنكر للدين المتفلت من كل عقال، ولكن هذه الأصوات منفردة ضعيفة لا تكاد تسمع وسط هذا الهدير المائج. والسعار المادّي الهائج.
وحين غزت مظاهر المدنية الغربية ومنتجاتها البراقة العالم غزته معها موجات عاتية من الإباحية والتفكّك الأسري، والتلوّث البيئي والحروب وسباق التسلّح، والأزمات الاقتصادية التي جعلت العالم مدينا بأضعاف ما يملك، مع اختلال عظيم في توزيع الثروة، وظواهر من القلق والتأزّم النفسي، وحوادث الانتحار والإجرام وانتشار المخدّرات، وهي كلّها مشكلات وأزمات غدت أزمات عالمية عابرة للحدود والقارات والقوميات، لأن الواقع الحداثي الغربي يكاد يعمّ الأرض كلّها.
وأمام هذا الواقع تكون مسؤولية الطليعة المسلمة الواعية مسؤولية مزدوجة، فعليها واجب تبصير أمتها بمواطن الخلل الكامن الذي ظل ولا زال يكبح نهضة الأمّة ويشدّها إلى وهدة الجمود والرتابة، ويحدّ من فعاليتها الحضارية، وعليها واجب العمل لإبراز عناصر القوة التي من شأنها أن تجمع طاقات الأمة وتدفعها في طريق الازدهار والعزة والمجد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هناك واجبا آخر في ذمة هذه النخب الواعية يتعلق بالتصدي لهذه المادية الطاغية التي تكاد تجرف أكثر القيم الأخلاقية رسوخا وثباتا في التاريخ البشري، ومعلوم أن إنسانية الإنسان لا تتحقق إلا ضمن الإطار الأخلاقي المغروس في فطرته المسنود من الوحي السماوي.
من الإشكالات الراهنة ذات الصلة بهذه التبعية، وهذا التملص من المسؤولية، تداعي عدد من الدول العربية إلى تطبيع العلاقة مع العدو الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين، المتربص بالأمة كلها نشرا للفتنة وزرعا لأسباب التخلف. كيف تنظر إلى عواقب هذا التداعي؟ وهل ترى النخبة العربية مؤهلة لمقاومته؟
-مسلسل ما يسمى التطبيع سيسجل صفحة قاتمة في التاريخ العربي المعاصر، ليس من حيث شناعة ما انجرت إليه بعض الأنظمة من خيانة لقضية العرب والمسلمين المركزية التي تشكل جزءا من عقيدتنا فحسب، ولكن من حيث هذا الوضع المأساوي الذي وجدت فيه الشعوب العربية نفسها محكومة من قبل من يقودها بل يجرّها إلى مسار لا يقرّه دينها ولا تقاليدها ولا كرامتها الإنسانية، حتى إن المعاني التي كان العربي في جاهليته يحرص عليها ويعلي من شأنها كالمروءة وعزة النفس والإباء والشهامة تلاشت في خضم هذا الانهيار المريع الذي نشهده.
على أننا لا ينبغي أن نستسلم لمشاعر اليأس والتشاؤم، فشعوبنا – بحمد الله – لا تزال وستظل بعيدة عن هذا المسار الخائن، شديدة الإحساس بهويتها والاعتزاز بكرامتها، والغيرة على دينها ومقدساتهاـ لا سيما إذا تعلق الأمر بفلسطين ومأساة شعبها مع اليهود الصهاينة وأشياعهم.
هذه المعاني والقيم معجونة بمشاعر كل عربي حر وكل مسلم صادق، لأنها تتعلق بالحق في مقاومة الاحتلال والدفاع عن الأرض والعرض، وهو حق تكفله كل الشرائع والقوانين والمواثيق الدولية، ولكن الإسلام أضفى على هذا الحق قداسة كقداسة الدين ذاته، وإذا تعلق الأمر بفلسطين والقدس فإن الأمر يتعلق بأولى القبلتين، ومسرى النبي الأمين، وبالأرض المقدسة التي باركها الله إلى يوم الدين، والتاريخ يعلمنا أن الغلبة لأهل الحق، والدين ينبئنا أن الأرض يرثها الصالحون، وأن الزبد سيذهب جفاء ليبقى ما ينفع الناس ماكثا في الأرض، ولذلك فإن هؤلاء الذين يسارعون في مد أيديهم إلى الصهاينة لا يقفون بذلك في الجانب الخطإ من تعاليم الإسلام والإيمان وحسب، ولكنهم يقفون في الجانب الخطإ من الدين والتاريخ والمستقبل معا، وهذا انطماس للبصيرة عظبم، نعوذ بالله منه.