حـــول تقــريــر بــن جاميــن ستــورا الخـاص بـملــف الـذاكــــــرة
د.جمال مسرحي/
لقد أثار تقرير المؤرخ بن جامين ستورا حول الذاكرة بين فرنسا والجزائر، والذي قدمه إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأسبوع الماضي جدلا واسعا لدى فئات واسعة في البلدين لاسيما النخبة مع اختلاف الرؤى، ففي الوقت الذي يرى الكثير من المؤرخين الفرنسيين ومنهم ستورا أن الجزائر منذ استقلالها في سنة 1962 وهي تحبس نفسها في الذاكرة الرسمية للحرب التحريرية، ومن ثم فالطرف الفرنسي يبدو واضحا أنه يبحث عن هدنة مع الجزائر تتيح للطرفين الوصول إلى مصالحة تاريخية (بدون مقابل؟) بينما يرى الجزائريون بنوع من الإجماع لدى مختلف الفئات استحالة التغاضي عن ملف الذاكرة في القضايا المطروحة بين الطرفين، وفي صلب موضوع الذاكرة يؤكد الجميع على ضرورة اعتذار رسمي من الحكومة الفرنسية عن الاحتلال، دون التغاضي عن التعويض عن الأضرار الناجمة عن حالة الاحتلال التي تعرضت إليها الجزائر، وهو على ما يبدو ما جعل المؤرخ بن جامين ستورا يغض الطرف عن التطرق إلى هاتين النقطتين ولم يشر إليهما تقريره ولو عرضا، مفضلا التركيز على طرح قضية السماح للحركى بالدخول إلى الجزائر التي غادروها بعد الاستقلال مباشرة.
ومعلوم أن الحركى كانوا منذ عقود يتهمون الحكومات الفرنسية بالتخلي عنهم عقب انتهاء دورهم في حرب التحرير الجزائرية. إن إبراز ردود فعل الحركى الغاضبة من تقرير ستورا لا يعدو أن يكون ذرا للرماد في أعين الطرف الجزائري حتى يوهم البعض أو يعطي للبعض انطباعا أنه تنازل للطرف الآخر…
ونرى أن التقرير بقدر ما هو حجر عثرة في مسار تقويم العلاقات بين البلدين، بقدر ما هو تمهيد فيه بصيص من الأمل لفتح ورشات عمل لحل المشاكل العالقة بين البلدين والموروثة منذ عقود، وقد يشكل أفقا جديدا لإعادة ترتيب الأولويات بين الطرفين بدءا بمعالجة ملف الذاكرة معالجة جادة ومنصفة، وأول شرط في ذلك هو تخلي فرنسا عن التعامل مع الجزائر كأنها الفردوس المفقود، ثم الابتعاد عن الاستعلاء باحترام تام للسيادة الوطنية التي حصلنا علينا بقوافل من الشهداء، ثم التعامل مع ملفات التاريخ المشترك بالواقعية التي تتطلبها مثل هكذا قضايا، لأنه يتعين بالضرورة على الطرف الفرنسي بالإضافة إلى الاعتذار عن الاحتلال، الاعتراف بما اقترفته فرنسا وقادتها السياسيين والعسكريين طوال قرن ونيف من الاحتلال وما قبله وهي قضايا جلها لا تسقط بالتقادم ومنها :
1- الديون الجزائرية لدى الحكومة الفرنسية وكميات القمح والمواد الغذائية المصدرة إلى فرنسا بعد الأزمة الاقتصادية والسياسية التي عرفتها على إثر قيام الثورة بها سنة 1789 المبالغ الهامة التي اقترضتها من حكومة الداي حسين قبل احتلالها للجزائر.
2- الاحتلال في حد ذاته، وما ترتب عنه جريمة تدين فرنسا وتلاحقها، وجب الاعتذار الفوري عنها.
3- الاستغلال الفاحش للثروات الوطنية بعد الاحتلال .
4- التقتيل والتهجير والإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب الجزائري خصوصا أثناء وبعد القضاء على الثورات الشعبية ..
5- القوانين الزجرية والعنصرية التي أصدرتها سلطات الاحتلال، والتي ترتبت عنها أضرارا مادية ومعنوية خطيرة مست كل فئات الشعب الجزائري..
6- جريمة التجهيل الممنهج التي تعرض لها أبناء الجزائر طوال مدة الاحتلال ..
7- جرائم الحرب التي ارتكبها قادة الجيش الفرنسي أثناء الثورة التحريرية كاستعمال أسلوبي الأرض المحروقة والأسلحة المحرمة دوليا ..
8- ضحايا التجارب النووية بعد الاستقلال في رقان وعين يكر…
كل هذا يمثل الشيء القليل من الملفات التي تخيف الطرف الفرنسي وتجعله يسعى لطي صفحة الماضي لأن الماضي أصبح يقلق الحكومات الفرنسيه ويجعلها تحاول القفز عليه والمرور إلى المستقبل دون معالجة ملفاته الشائكة…
حقيقة اتفاقيات إيفيان أنهت الحرب في الجزائر وفتحت باب الاستقلال على مصراعيه أمام الشعب الجزائري ليقرر مصيره، لكن من الخطأ القول أنها أغلقت باب المطالبة بالاعتراف بجرائم الاحتلال والتعويض عنها للشعب الجزائري الذي يعتبر الضحية الأساسية للاحتلال، وعليه فإن الشعب الجزائري يدرك تماما ما هو مطلوب منه في هذا الموضوع، وإن تعامل باستهجان مع تقرير بن جامين ستورا، يترقب بإمعان تقرير نظيره الجزائري وشعاره يظل دوما ما قاله الرئيس بومدين للرئيس الفرنسي جيسكار ديستان حين صرح أن فرنسا التاريخية تحيي الجزائر المستقلة حيث رد عليه : “إننا قد نطوي الصفحة ولا نقطعها”.
* قسم التاريخ جامعة باتنه 1