بناء القـــــــرآن للعقل العلمــي
د. بدران بن الحسن */
إن النظر الفاحص المتدبر لنصوص القرآن من قبل من يؤمن به أو من قبل من لا يؤمن به سواء، سيجد تناولا مكثفا للقراءة والعلم والتدبر والتفكر والتساؤل والنظر والسير والفقه، والتعقل … الخ، ودعوة إلى إعمال السمع والبصر والفؤاد.
كما أن المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته وسنته سيجد أنه أولى عناية كبيرة للقراءة والإقراء والكتابة والتدوين والتعلم والتفقه، سواء في شؤون البيت أو الجماعة أو المجتمع أو الدولة، وسواء أكان ذلك في الحرب أم السلم. بل يكاد النبي صلى الله عليه وسلم يحصر رسالته في التعليم والتعلم والعلم، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه «إنما بعثت معلما»، وهو ما يؤكده القرآن الكريم لما ذكّر الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: «الأميين أنه ارسل لهم من يخرجهم من الأمية إلى العلم «هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين» (سورة الجمعة:2). والآيات والأحاديث الدالة على مركزية العلم وعلى ذكر أدوات العلم كثيرة العدد تنوء بإحصائها العقول النبيهة.
بل إنك تجد كتب السنة تخصص في بداياتها بابا تعنونه «باب العلم قبل العمل» كما فعل البخاري في صحيحه، وغيره من أعلام السنة. والعمل كما هو معروف عند علماء المسلمين هو «عمل القلب والجوارح» كما جاء عن أكثر من واحد منهم.
ولعلنا نتساءل عن هذه الكثافة في ذكر العلم والمفردات المتعلقة به، في القرآن والسنة، وفي كتب العلم في حضارتنا الإسلامية؟ وهل هو تكثيف عشوائي -معاذ الله- أم تأسيس عميق للعقل العلمي الذي سيقوم عليه الدين والتدين، وتقوم عليه الجماعة المسلمة والأمة والحضارة المسلمة، مما يجعل الإسلام ينقل العقل الإنساني من وضع إلى وضع؛ من وضع كان فيه العقل والتعقل والعلم والتعلم دائرة ضيقة إلى وضع يتحول فيه «الاجتماع الانسان والعمران البشري» كله إلى البناء العلمي والاعتماد على العلم؟
والحقيقة كما قال الدكتور عمر عبيد حسنة في تقديمه لكتاب «توطين العلوم» للدكتور علي القريشي، أن بداية الوحي الخاتم إلى الإنسانية بكلمة (إقرأ)، هو اعتبار أن القراءة وتحصيل المعرفة والعلم والتعلم والتعليم هـو مفتاح هـذا الدين وإدراك قيمه ومعرفة أحكامه، وهو سبيل النهوض والارتقاء بالإنسان والعمران، وإن شئت فقل: الارتقاء بخصائص الإنسـان، وتنمية قدراته، والارتقاء بأشياء الإنسان وتحسين ظروف وشروط حياته؛ فبالعلم والمعرفة تتم ولادة الإنسان الصالح بذاته، المصلح لمجتمعه ومحيطه (القريشي، ص5).
ويضيف الدكتور حسنة أن التدبر والتأمل والتفكير والاستكشاف لأبعاد وآفاق قوله تعالى «رسولا منهم» وقوله تعالى «بلسان قومه» سيكون له أثر عظيم في عملية التغيير والارتقاء: رسولا من بينهم، من بيئتهم، من مجتمعهم، من لغتهم، من أنسابهم، من وطنهم وقومهم… إن هـذه الاستحقاقات مجتمعة تشكل شروط نجاح تزكية الانسان وبناء المعرفة والتدين وتحقيق العمران. (القريشي، ص6).
بعبارة أخرى فإن الإسلام جاء برسالة تبني العقل العلمي الذي يقوم على تأسيس التدين الصحيح، وبناء شخصية الانسان الذي يتزكى ويحقق العمران. وأن هذه الابعاد كلها مرتبطة ببعضها البعض، وأنهما مسؤولية الانسان الذي يستمد من القرآن الكريم ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته الطريق الذي يبني به عقلا علميا، يتجاوز العقل الخرافي، والاسطوري، ويتجاوز التقليد البليد للماضي وللحاضر، كما يتجاوز الآبائية القائمة على غير أسس علمية تصمد امام النقد.
إن الله تعالى الذي قال في كتابه «إقرأ وربك الأكرم» (سورة العلق: 3)، قد تكرم على الانسان بأن زوده بالقوى الادراكية وبأدوات تحقيق المعرفة، وبمصادر متعددة لتحصيلها، تتضافر جميعا ليؤسس الانسان صلة علمية بالوحي ذاته، ويحقق التدين على علم، وينجز مشروعه الاستخلافي عبادة وعمارة.
والعقل العلمي الذي يؤسسه القرآن عقل لا يقبل التدين الخرافي، أو التدين المغشوش، ولا يقبل الأساطير منبعا للتدين، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإنه يكون عقلا ناقدا، فاحصا، متسائل، متشككا شكا منهجا، كما ذكره أبو حامد الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال»، وهذا يجعلها منفتحا على أي تجربة دون ان يذوب فيها ويقلدها ويتلبس بها تلبسا أعمى، ودون انغلاق يستبعد الحكمة التي يقبلها عقله العلمي الذي أسسه الوحي.
ولعل هذا العقل العلمي الذي جاء القرآن لتأسيسه هو ما تحتاجه أمتنا الآن، لأنه عقل لا يقبل بمقولات التناقض أو التضاد بين الدين والعلم، كما أنه عقل ناقد للمضامين الاختزالية للعلم الحديث، تلك الاختزالية التي حصرت العلم في دائرة ضيقة من الطبيعيات والتقنيات مستبعدة مجالات العلوم الشرعية والاجتماعية والإنسانية، أو واضعة لها وصمة الفنون غير القابلة لأن تكون علوما، بحجة أنها لا تتبنى المنهج التجريبي.
وهو عقل ناقد للمضامين الاختزالية للدين في مضامينها الكتابية «اليهودية المسيحية»، التي جعلت الدين شانا خاصا لا علاقة له بالاجتماع الإنساني والعمران البشري في صورة «دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر»، وفي مضامينها الحداثية، التي جعلت الدين ملحقا بالسحر والأساطير، ومؤسسا عليهما، ولا دور له في الشأن العلمي والاجتماعي والحضاري.
باستعادة هذا العقل العلمي فإننا نستطيع أن نؤسس من جديدة لدورنا الحضاري في ترشيد الحضارة الإنسانية، ونحمل رسالتنا إلى الناس مبنية على «إقرأ» كما بدأت أول مرة في حراء.
*مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية/ جامعة قطر