وراء الأحداث

العلامة الشهيد الشيخ العربي التبسي رجل العلم والوطنية الصادقة

أ. عبد الحميد عبدوس/

الشيخ العربي التبسي أحد أقطاب جمعية العلماء المسلمين ومن أعمدة الإصلاح في الجزائر، كان من بين أوائل الداعين في سنة 1926 لتأسيس جمعية العلماء المسلمين ثم كان من مؤسسيها في سنة 1931 ثم اختير في سنة 1935م لتقلد منصب الكاتب العام للجمعية خلفا للشيخ الامين العمودي، وتولى ايضًا رئاسة لجنة الافتاء نظرًا لزاده الفقهي والعلمي، واستمر على ذلك إلى غاية اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفي سنة 1940م انتخب الشيخ التبسي نائبا لرئيس الجمعية الجديد العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي كان منفيا في الجنوب الجزائري بمدينة «آفلو»، وبعد افتتاح معهد عبد الحميد بن باديس عام 1947م انتقل الشيخ التبسي إلى قسنطينة لإدارة المعهد، وقد بقي على رأسه إلى تاريخ إغلاقه أواخر سنة 1956م، وفي سنة 1952م رحل رئيس جمعية العلماء الجزائريين الإبراهيمي إلى المشرق فتولى رئاسة الجمعية نيابة عنه إلى أن توقف نشاطها.
يقول عنه العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الرئيس الثاني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين: «ألزمته وطنيته الصادقة بالذوبان في الأمة والانقطاع لخدمتها بأنفع الأعمال، وأعانه بيانه ويقينه على نصر الحق بالحجة الناهضة ومقارعة الحجة بالحجة ومقارعة الاستعمار في جميع مظاهره».
أما رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأستاذ الدكتور عبد الرزاق قسوم فيعتبره: «المجسد الحقيقي لمنهج الدعوة الإسلامية بين علماء الجمعية، فقد اكتسب خصائص الداعية المسلم الصادق إذ وهبه الله إلى جانب الفصاحة والبيان والتضلع العلمي، الشجاعة في الدفاع عن الحق، والاستماتة في الذود عن القناعات والمبادئ التي آمن بها إسلاميا ووطنيا».
كما يقول عنه نائب رئيس جمعية العلماء الأستاذ الدكتور عمار طالبي: «كان صادقًا داعيًا إلى الله، يدافع عن العقيدة ولغة القرآن، ولم يكن رجل نخبة منعزلة. لا يلين في مواقف الحق، وكان حاسمًا في المواقف الصعبة».
ولد الشيخ العربي التبسي ولقبه الحقيقي هو العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات جدري الملقب التبسي ولد سنة 1895م. في عائلة فلاحية فقيرة، وكان والده إلى جانب عمله في الزراعة يتولى تحفيظ القرآن لأبناء القرية في الكتاب. بدأ حفظ القرآن على يد والده في مسقط رأسه وقد توفي والده حوالي سنة 1903م، في سنة 1910م رحل إلى زاوية مصطفى بن عزوز بـنفطة جنوب غرب تونس، وبعدما أتم تكوينه في مختلف العلوم من فقه ومنطق وأصول، وفنون اللغة العربية، والأدب، في سنة 1914م التحق بجامع الزيتونة بتونس المنارة العلمية التاريخية التي تخرج منه عشرات العلماء والمصلحين الجزائريين أول جامعة في العالم الإسلامي، و أول مدرسة فقهية بإفريقية ومنها نال شهادة الأهلية ثم رحل حوالي سنة 1920م إلى القاهرة ومكث فيها يطلب العلم في حلقات جامع الأزهر ومكتباتها الغنية إلى سنة 1927م، ثم رجع في السنة نفسها إلى تونس وحصل على شهادة العالمية، والتعليم في جامع الزيتونة يشمل التعليم الثانوي والعالي وشهادة العالمية هي أعلى شهادة في التعليم الزيتوني.
قضى العلامة الشيخ العربي التبسي حوالي سبعة عشر (17) سنة خارج الجزائر في رحلة تحصيل العلم بعد عودة الشيخ إلى الجزائر وتسخير نفسه للنشاط الدعوي ونشر العلم والوعي والإصلاح الديني والوطني، ولما لاحظ الفرنسيون نشاط الشيخ والتفاف الناس حوله، أخذوا في مضايقته ومضايقة أنصاره، ولما تفاقم الأمر نصحه الشيخ ابن باديس بالانتقال إلى مدينة سيق في الغرب الجزائري التي حل بها سنة 1930م، ففرح أهلها بقدومه وأقبلوا على دروسه واستفادوا من علمه وخلقه وتوجيهاته فمكث فيهم إلى آخر سنة 1931م، وفي هذه المدة تمكن من بث الدعوة الإصلاحية السلفية في مدينة سيق.
في سنة 1932م ألح عليه سكان مدينة تبسة بأن يرجع إليهم فاشترط عليهم تأسيس مدرسة ومسجد فوافقوا على شرطه، فرجع وأسس «مدرسة تهذيب البنين والبنات» التي جهزت تجهيزا عصريا، وبلغ عدد تلامذتها عام افتتاحها 1934م خمسمائة تلميذ، وبجانب المدرسة بنى مسجدا جديدا لا يخضع لمراقبة الإدارة. في عام 1943جاءه أهل مدينة تبسة ليخبروه بأنهم حصلوا على السلاح من طرف الألمان، والسلطات الفرنسية الاستعمارية تجبرهم على تسليمه، قال لهم: «احتفظوا بالكثير واعطوهم القليل». تعرض الشيخ التبسي للاعتقال من طرف المحتل الفرنسي، وأودع السجن بتهمة التآمر مع الألمان ضد الدولة الفرنسية، وسجن لمدة ستة أشهر، وتكرر اتهامه بالتحريض على التمرد في ماي 1945م فاعتقل، ولم يفرج عنه الا مع صدور قانون العفو العام سنة 1946م.
وفي عام 1956 انتقل الشيخ التبسي إلى العاصمة لإدارة شؤون الجمعية فيها، واستأنف دروسه في التفسير وكان شجاعاً لا يخاف فرنسا وبـطـشـها، يتكلم بالحق، ويدعو للجهاد ولم يأبه لتحذير الناصحين المحبين له الذين خافوا عـلـيـه من فرنسا التي كانت تعلم مكانته بين صفوف الجماهير.
حاول المحتلون الفرنسيون استمالة الشيخ الشهيد العربي التبسي والضغط عليه لإصدار فتوى بإدانة العمليات الجهادية أو تليين موقفه من التحريض على المحتل ولكن الشيخ ظل تابتا على الحق رافضا لخيانة دينه ووطنه، ولما يئست فرنسا من نجاح مساعيها للتأثير على الشيخ قررت اغتياله.
وقد نقلت جريدة «البصائر» تفاصيل اختطاف الشيخ فكتبت ما يلي: «في مساء يوم الخميس 04 رمضان 1376هـ الموافق 04 أفريل 1957م، وعلى الساعة الحادية عشر ليلا اقتحم جماعة من الجند الفرنسيين التابعين لفرق المظلات.. سكنى فضيلة الأستاذ الجليل العربي التبسي؛ الرئيس الثاني لجمعية العلماء، والمباشر لتسيير شؤونها، وأكبر الشخصيات الدينية الاسلامية بالجزائر؛ بعد أن حطموا نوافذ الأقسام المدرسية الموجودة تحت الشقة التي يسكن بها بحي بلكور طريق التوت…، وكانوا يرتدون اللباس العسكري الرسمي للجيش الفرنسي. وقد وجدوا فضيلة الشيخ في فراش المرض الملازم له، وقد اشتد عليه منذ أوائل شهر مارس، فلم يراعوا حرمته الدينية، ولا سنه الكبيرة، ولا مرضه الشديد، وأزعجوه من فراش المرض بكل وحشية وفظاظة، ثم أخذوا في التفتيش الدقيق للسكن..، ثم أخرجوه حاسر الرأس حافي القدمين… ولكن المفاجأة كانت تامة عندما سئل عنه في اليوم الموالي بعده في الادارات الحكومية المدنية والعسكرية والشرطية والعدلية؛ فتبرأت كل إدارة من وجوده عندها أو مسؤوليتها عن اعتقاله أو من العلم بمكانه».
يروي المجاهد الرائد «أحمد الزمولي» في كتاب للدكتور أحمد عيساوي قصة استشهاد الشيخ العربي التبسي الذي ألقي عليه القبض من طرف فرقة «البيري روج» أو «القبعات الحمر» من جيش الاحتلال الفرنسي التي اقتحمت منزله ليلا ببلكور بالجزائر العاصمة بقيادة الدموي «ديمون لا غارياد» فقد بقي الشيخ التبسي سجينا لدى هذه الفرقة العسكرية ليعذّب بأمر من «لغارياد» من طرف مجموعة من أربعة أفراد من الجنود السينغاليين طيلة ثلاثة أيام دون طعام ولا لباس أما يوم الاستشهاد فكان بعدما طلب القائد الفرنسي إحضار قدر من زيت السيارات الممزوج بالإسفلت والذي بقي فوق النار حتى درجة الغليان ليوضع الشيخ عاريا فوقه، طالبين منه التراجع عن دعم الثورة وتعديل خطابه ضد الاستعمار الفرنسي، لكنه ظل يرفض الانصياع وتواصل هذا التعذيب والتنكيل حتى تلقّى الجنود السينغاليين الأمر بإدخاله في ذلك القدر لافظا الشهادة كآخر كلمات له في هذه الحياة الدنيا.
رحم الله شهيد العلم والوطن الشيخ العربي التبسي.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com