سعة الوجود ومحدوديـــــة الوجــــــــدان

د. بدران بن الحسن */
إن القارئ للقرآن الكريم وهو يحدثنا عن الوجود، يقف مندهشا أمام سعة الوجود وامتداده في عالمي الغيب والشهادة، حتى أن الإنسان ليقف متسائلا عن إمكان معرفته للوجود، والموجودات، ومراتب الوجود، وعن قوى الإنسان الإدراكية التي يدرك بها الوجود، وما هي الطرق التي نسلكها لتحصيل ذلك.
ويجول في خاطره ذلك الجدل بين الفلاسفة والمتكلمين والعلماء والمفكرين؛ مؤمنين وغير مؤمنين، عن مصادر المعرفة، وعن الطريق الموصل للمعرفة، أهو النقل أم العقل، أهو الوحي أم العقل أم الحس، كما يثار في ذهنه مسألة مدى قدرة العقل الإنساني على إدراك الوجود منفردا.
ولعل هذه التساؤلات تجعلنا نتساءل عن الوجود في امتداده بين الغيب والشهادة، وفي مراتبه، لنصل في الأخير إلى حقيقة أن كل قوى الانسان الادراكية ينبغي أن تتظافر جميعها، ومستعملة الطرق كلها، سعيا لإدراك الوجود في سعته، وبالرغم من ذلك تبقى معرفة الانسان به محدودة ونسبية وغير مكتملة، «وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» (سورة الإسراء:85).
ولعل أدنى تأمل في عالم الشهادة يجعل الانسان يدرك أن موجودات عالم الشهادة المادية والمعنوية لا تدرك كلها بطريق واحد، ولا تدرك كلها جملة واحدة، ولا يدركها كل الناس على درجة واحدة من الادراك الموصل للعلم، بل هناك تفاوت، بيننا في إدراكها. فهناك ما يدركه الانسان بحدسه وفطرته، وهناك ما يدركه ضرورة كما يقول العلماء بحيث لا يحتاج معه الانسان إلى إثبات؛ كإدراك الانسان ذاته مثلا. وهناك ما يدركه الانسان باستعمال حواسه سمعا وبصرا وشما ولمسا، وهذا في العادة للظواهر العادية المعتادة في العالم الخارجي، وهناك ما يدركه الانسان بفكره وتأمله وإعمال عقله، وخاصة في الموجودات المعنوية او المجرد، كالمفاهيم الكلية والمبادئ والقيم، من خلال تعيناتها الجزئية في الواقع الحسي أو إدراك صورها المجردة عقلا مستقلا عن التجسد الحسي. وهناك ما يدركه الانسان بالأخبار الموثوقة إما متواترة أو آحادا. وهناك ما يدركه الإنسان بقلبه أو فؤاده من المشاعر والأحاسيس والحقائق التي لا يمكن للعقل أو الحس ان يدركها، ولكن القلب يعيها بما لا يمكن رده. وهناك ما لا يمكن إدراكه بطريق واحد فقط، بل تتظافر كل الطرق على التعاون في وعيه وتحصيل المعرفة به. ولهذا نجد في القرآن ذكرا وتنبيها لهذه الطرق في معرفة الحقيقة، وإدراك الوجود والموجودات. فذكر السمع والبصر والفؤاد في قوله تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا» (سورة الإسراء: 36)، وقوله تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (سورة الحج: 46)، وذكر التفكر في قوله تعالى: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» (سورة آل عمران: 191)، وذكر القرآن الكريم ظواهر كونية وطبيعية تقع تحت حس الانسان ويلاحظها ويعلمها بادوات العلم، فقال تعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» (سورة فاطر: 27-28).
إن الآيات التي ذكرناها، تمثل عينة من آيات كثيرة في القرآن الكريم تدلنا على أدوات الادراك وطرق المعرفة بالحقائق، من حواس، وحدس، وإعمال العقل، والمقايسة، والمقارنة، وتدبر القلب، وغيرها حتى يصل الانسان إلى الحقيقة، في عالم الشهادة، ولكن مع عدم الوقوف عند ظاهر الظواهر، بل العبور إلى بواطنها، وإدراك حقائقها، وربط الشهادة بعالم أوسع، وأشمل، يدل عليه عالم الشهادة، وهو عالم الغيب الفسيح، الذي تدركه الحواس منفردة معزولة عن القلب والفؤاد، ولا مفصولة عن تدبر الكليات العقلية. كما أن عالم الغيب الفسيح هذا لا ينفذ العقل بكلياته إليه إذا وقف معزولا عن القلب والفؤاد، وخاضها للتجريد من الحواس، غير عابر منها إلى عالم الغيب الفسيح الذي لا يستطيع العقل إدراك كنهه لوحده منفردا مجردا عن تأييد قوى إدراكية أحكم وأوسع وانفذ إلى عالم الغيب.
ولهذا كان الوحي الطريق إلى إدراك كنه عالم الغيب بتفاصيله، خبرا صادقا يبلغه الأنبياء، الذين يدرك العقل والحس والقلب والحواس صدقهم، وعصمتهم من التبليغ خطأ، وقدرتهم على الإخبار بالغيب، تكليفا من الله تعالى، بدلائل من عالم الشهادة، تقوم قوى الانسان الادراكية متضافرة على فحصها وإدراك صدقها من زيفها.
ولهذا فإن من لا يدرك هذا الوجود الفسيح بشموله؛ عالم الغيب والشهادة، فإن المشكلة في عدم وجدانه وليس في عدم الوجود ذاته، والمشكلة في محدودية إدراك وعلمه، وليس في سعة الوجود غيبا وشهادة. ولهذا يعلمنا القرآن الكريم طريقة الأنبياء في التثبت من معرفة الوجود، من خلال قصة سيدنا إبراهيم لما سأل الله ان يعلمه كيف يحيي الموتى، ليطمئن قلبه. فعدم طمأنينة القلب للحقائق ليس دليلا على عدم وجودها، ولكنه طريق للبحث والتساؤل والاكتشاف حتى يطمئن قلب الانسان بمعرفة الحقائق، «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا».
*مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية/ جامعة قطر