تذكيرٌ وتنويرٌ: مشهد التعميم الخاطئ
أ. د. مسعود صحراوي/
لنتأمل قولَ الله سبحانه وتعالى في معرض إنصاف أهل الكتاب {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ}[آل عمران، 113].
{لَيْسُواْ سَوَاء}! أصلٌ قرآني مكين! إنه دينُ الإنصاف يعلّمنا الإنصاف مع الموافق والمخالف ومع القريب والبعيد… {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}… وإذا صحت قُدْسيةُ «مبدأ الإنصاف» على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فأوْلى أن ينطبق ذلك على أبناء وطن مثل الجزائر (وغيرها) وهم يَدينون بدين واحد ويؤمنون برب واحد -سبحانه- وبكتاب واحد، ويتمذهبون في الفروع بمذهب فقهي واحد ويتوجَّهون خمس مرات في اليوم إلى قبلة واحدة!
ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ ــــ
من الأخطاء التي لا يُنتبَهُ إليها كثيرا في زمننا هذا أن نحكم على مكونات المجتمع كلها من خلال نموذج فكري واحد ووحيد، تَرسَّخ في وعينا وامتدت جذوره في نفوسنا وتجسّد في مواقفنا وأعمالنا، قد يكون صالحا لزمن دون زمن وبيئة دون بيئة، أو لعله يكون خاطئا في أصله… فنقوم بإسقاطه على زمن وبيئة مختلفين… أو قد يكون جزئيا ينطبق على أشخاص محدودين عددا، فنقوم بتعميمه خطأ وظلما على الجميع.
ذلك هو التعميم الخاطئ الذي يحشر الناس في بوتقة واحدة دون مراعاة الفروق الفردية والخصائص المُميِّزة، وهم في الواقع ليسوا سواء… فليس سواءً جميعُ أتباع المذاهب والحركات والأحزاب والجماعات! كما لم يكنْ سواءً كلُّ صوفيةِ الزوايا سابقا في موالاة الاستدمار الفرنسي ومعاداته! وليسَ سواءً كلُّ السلفية الحالية من جهة موالاة الأنظمة ومعارضتها! وليسَ سواءً كلُّ الإصلاحيين والحَرَكيين والحَراكيين والثوريين، والتراثيين والحداثيين، وأهل الصحوة وغيرهم، في الإخلاص والصواب وفي المواقف والأعمال، والقيم الإنسانية العليا كالتحلي بمكارم الأخلاق والالتزام بالفضائل والآداب، وفي الفهم السياسي والوعي الحضاري والرؤية الإستراتيجية، بل هم أصنافٌ ودرجاتٌ متفاوتة منهم الصالحون لخدمةِ الإنسان، وبناءِ الوطن والمجتمع، ومنهم دون ذلك، وقد يغلب على بعضهم أهلُ الاعتدال أو أهلُ الغلو والشطط… وفيهم القادة والسادة، وفيهم الأتباع، ولا يزالون متفاوتين من جهات عديدة. ويصدق هذا على أفراد الكيانات المختلفة: من أحزاب وجمعيات وتجمعات، وهكذا…
ولذلك لا يكون مبررا الحكم عليهم جميعا بحكم واحد كأنهم جسدٌ واحدٌ وجدارٌ مُصْمتٌ لا صدْعَ فيه ولا نُتوءَ، أو كأن الجميع صورٌ متطابقة ظاهرا وباطنا… وعوضَ أن يُحكم عليهم بمعيار الإخلاص والاستقامة وحسن خدمة الأوطان والإنسان حُكم عليهم بالانتماء الحزبي الضيق المتمَذهب (المؤدلج)… كما لا يكون مبررا في ضوء هذا التوجيه القرآني الحكيم ضيقُ الأفق المتمثل في مشهد «صراعات السلفية والصوفية، والسلفيات فيما بينها والصوفيات فيما بينها، وصراع أنصار السلفية والصوفية مع الحركات التجديدية الإسلامية»-كما يقول فضيلة الأستاذ الدكتور الطيب برغوث – وليس مبررا تضليلُ الجميع بجرة قلم وسفسطة لسان أو حتى بسحر بيان، ومن غير المبرر أن تشن التيارات المتَمَشْرِقة حربا ظالمة- منذ عقود- على كل ما هو محلي من صميم أصالتنا الإسلامية المغاربية حتى ولو كان المستَهدَفُ تراثَ جمعية العلماء وشيوخ الإصلاح! كما لا يصح التنابز بالألقاب المرذولة اتباعا لنماذج فكرية أو قناعات حزبية، وُضِعَت مناكفة للإخوة وعاملتهم معاملة الخصوم فحوّلتهم إلى إخوة-أعداء… والقرآنُ يعلمنا -والواقعُ من بعد ذلك- أيضا يعلمنا خطأ بعض المرجعيات الفكرية الحزبية المذهبية الضيقة المعتمدة في الحكم والتوصيف.
لكن يُستثنى من هذا الذي قلناه الفئاتُ والحركاتُ الوظيفية- بتعبير المفكر عبد الوهاب المسيري رحمه الله- التي تُغْرَق بها الساحة في أزمنة وأمكنة معينة لأداء وظيفة محددة، وهي حركاتُ رائجةٌ في أيامنا… وهذا الحديث ليس عن هؤلاء.
لقد بات من الواجبات الملِحّة أن نتعلم من الكتاب الكريم ومن الواقع، ثم نتحلى بفضيلتين: فضيلةُ الرؤية العلمية الصحيحة المتكاملة، وفضيلة الإنصاف والبعد عن التعسف والتسرع والإجحاف، إزاء أفراد الجماعات وأعضاء الكيانات والأحزاب في بلداننا على أساس سليم خال من التحيّز الفئوي والحزبي والعنصري والمناطقي، في الأعمال والسلوكات والمواقف، والابتعاد عن الاصطفافات الخاطئة: المناطقية والحزبية المفرّقة وتصنيفات التعميم المفرِط غير الصحيح… {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَـَٔانُ قَوْمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}… ولن نصل إلى ذلك إلا بمنطلقات صحيحة وإدراك سليم للواقع وترك النماذج الفكرية الخاطئة التي تحولت عند بعضهم إلى دغمائيات معطِّلة، وأوصاف ما أنزل الله بها من سلطان، وإلى أفكار ميتة مُميتة بتعبيرِ المفكر مالك بن نبي رحمه الله… والإدراك السليم يبدأ باطّراح تلك النماذج التي ضيّعت بوصلتنا وحجبت عنا الرؤية أو شوشتها وغبشتها، وميعت المعالم والحدود والخصائص، وخلطت المتفقات والمختلفات.
وما لم نتداركْ ذلك المشهد المائل فلا أملَ في أن ننتج مشاريع ثقافية تربوية قادرة على دفع مجتمعنا إلى الأمام، وقد لا نكون مُؤتمنين على بناء الوطن وحمل الأمانة لأننا أخسرنا الميزان وضيعنا البوصلة جزئيا تُجاهَ قومنا ومجتمعاتنا.