الإعلام العربي متواجد!
يكتبه د. محمّد قماري/
عرفتُ الأستاذ محمد فارح، رحمه الله، في السنوات الأخيرة من عمره، وكان المرض قد نال منه، لكنه مع ذلك كان يبدي تجلدًا، فقد كان عضوا في المجلس الإسلامي الأعلى ويحرص على حضور اجتماعاته وندواته، وكان يحرص على حضور النشاطات الثقافيّة، ومن هذا الباب احتلت عليه، فكنت أصرف من يوصله، وأنفردُ به إيابًا إلى بيته، وكنت أسعد بسماع طائفة من ذكرياته…
والرجل عرفه الناس على صفحات جريدة الشعب، وهو يقوّم ويدقق مقالات الصحافيين، ويقوّم ألسن القراء في باب كان ينشره (قل ولا تقل)، كما عرفه من كان في قاعات تحرير الإذاعة معدا لبرنامج شبيه بما ينشره في صحيفة (الشعب)، ومدققًا لما يذاع على الناس…
ومرة سمعت الدكتور صالح بلعيد في ندوة حول لغة الإعلام يقول: ما على الصحافي إن نصب مرفوعًا أو رفع منصوبا، وأنا لا أتذكر ألفاظ حديثه الآن لكنها قريبة من هذا المعنى، ورددت عليه هذا (الاستسهال) المقامر في أمر خطير خطر لغة الإعلام.
ويوم أدركت أحد المتحدثين في مؤتمر علمي يزعم بألا فائدة ترجى من مذهب محمّد فارح: (قل ولا تقل)، وأن هذا المسلك بدعة ابتدعتها الأكاديميّة الفرنسيّة، أفهمته بأن هذا مذهب علماء سلفنا، فلقد كتب ابن المبرد في القرن الثالث للهجرة رسالة سماها: (ما تلحن فيه العامة)، وخصَّ ابن قتيبة طائفة من الألفاظ التي تلحن فيها العامة في كتابه المميّز (أَدبُ الكَاتِب) بالتحقيق والتقويم، من ذلك أن الناس تسمى أهداب العين بالأشفار، والشفر هو الحافة التي ينبت عليها شعر الأهداب، والخطأ ما زال على هيئته إلى اليوم…
وأحبُ أن أثبت هنا بأن اللّغة مقامات، فلغة الأفاضل وعليَّة القوم من أهل السياسة والأساتذة ومنابر الإعلام غير لغة عوام الناس، فإذا نزل هؤلاء بألفاظهم محاكين العوام ففي الأمر خلل، لأنَّ الأصل هو تطّلع العوام إلى محاكاة الأفاضل في المجتمع، ولكن قاعات الدرس في الجامعات وغيرها تعجُ بلغة أهل الأسواق، وبعض السياسيين انحدر بخطابه إلى دركات السب والشتم !
لكن أخطر ما في هذا الأمر، هو مصيبة الإعلام، فلو كان لي من الأمر شيء لطلبت من أئمة المساجد أن يكثروا في خطب الجمعة من الدعاء على نحو: (اللّهم لا تجعل مصيبتنا في إعلامنا)، إذ خطاب الإعلام خطاب يأتيك وأنت مسترخِ، فتظن أن باطله حق وعوجه استقامة، وهو يخاطب الكبير والصغير، والمتعلّم والأمي، والناس تأنس لحديث يدخل عليهم وهم مستلقون على مضاجعهم، دون تقدير منهم ولا عناء.
ولأجل سد ذرائع هذا الخطر في أمر اللّغة على الأقل، تحرص المؤسسات الإعلاميّة في كل العالم على انتخاب الأكفاء من الصحافيين، ويدعمون عملهم بمدققين يقوّمون ويصوّبون، لأن التلوث الذي يصيب الأذان من صحافي أَخْطل أشد من تلوث البيئة الطبيعية…
وفي نهاية الأسبوع المنصرم، اتجه الإعلام إلى نقل وقائع تنصيب الرئيس الأمريكي جون بايدن، وكنت انتقل بين المحطات العربيّة، وشعرت بالضجر وقد صمت أذناي عبارة: ونربط الاتصال بالزميل الفلاني المتواجد أمام مبنى كذا، وعجبت من هذا الفحش الذي شاع كالنار في الهشيم، أليس في المقدمين من ينتبه إلى عيب استعمال العبارة؟
وقديما كتب الجرجاني، وهو الشريف لا عبد القادر صاحب (دلائل الإعجاز) في كتابه التعريفات: (التواجد: استدعاء الوَجْدِ(وهو الحُزن) تكلفًا بضرب اختيار، وليس لصاحبه كمال الوجد؛ لأن باب التفاعل أكثره لإظهار صفةٍ ليست موجودة، كالتغافل والتجاهل، وقد أنكره قومٌ لما فيه من التكلف والتصنع…).
وقلت: ويحهم ماذا لو بُعث ابن المبرد من مرقده، وسمع العبارة ألا يأسى لهذا الحزن الذي أصاب العرب كلهم، وهم (متواجدون) وهل سبب تواجدهم حزن على ترمب الذي ولى ظهره للتاريخ غير مأسوف عنه أم بسبب قدوم بايدن؟
والحق لا يلام الظل والعود أعوج، إذ تنشر (أبحاث) في أقسام اللّغة العربيّة ملأى بـ(التواجد)، والقوم يقصدون الحضور أو الشهود أو الوجود، فلو قيل فلان موجود لكان الأمر صحيحًا وإن لم يكن فصيحًا أو بليغًا، فالأصل الذي يرمون إليه هو الشهادة والمشاهدة أو الحضور…
إنَّ اللّغة هي حامل الفكر، وأداة التفكير، وكلما تشوشت الألفاظ والتراكيب دل ذلك على تشوش المعنى وتذبذب الفكر، وأكبر فريّة يسوق لها المرجفون هي حصر جوهر اللّغة في التواصل، وإنسانيّة الإنسان تعلو وتنخفض بمقدار قدرته على ايصال المعاني سويّة إلى غيره، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم: «خَلقَ الإنْسَانَ عَلَّمهُ البيَّان» (الرحمن/1-2)…
وقديما قال أبو عثمان الجاحظ: (المعَاني مطروحة في الطريق، يَعرفُها العجمي والعربي والبَدوي والقروي، وإنّما الشَّأنُ في إقامة الوَزن، وتخيّرُ اللفظ، وسُهولَة المخْرَج)، وهو هنا لا يهوِّن من أمر المعنى، لكنه ينبه بأن المعنى لا يستقيم مع المبنى المتهالك.