أسس التَّجَدُّد والتجْدِيد بين إرادة المصلحين وتمني العاجزين

أ. محمد مكركب/
هذه الكلمة تابعة للمقال الأول، الذي نُشِر تحت عنوان: {أصول القضايا السياسية، هي، هي، وإن تغيرت الظروف المكانية والزمانية} فالذين يتكلمون عن التجديد والتغيير والإصلاح كثيرون، بالمئات والآلاف، والسياسيون منهم بالخصوص، ويحسبون أن التجديد والإصلاح بالتمني والادعاء، أو بتغيير القوانين، أو بالقرارات الارتجالية، والعاطفية، والعصبية، والمحاسبتية. إن التجديد والإصلاح يقوم به رجال حكماء أحرار، لهم من الخبرة والتخصص، والأمانة والإخلاص، والتضحية والإيثار، فإن هُمِّشَ هؤلاء، وأُسْنِدت مناصبُ القرارات للفاشلين، فلا تنفع التمنيات ولا القوانين ولا أية قوة مادية أبدا، لأن الإصلاح والتجديد بالرجال، لا بالمال، وبالعلم لا بالحلم، وبالمخططات لابالمغامرات، وبالشورى لا بالاستبداد، وبتقسيم العمل والتكامل، لابجمعالمهمام والمسؤوليات في يد رأي واحد. قال الله تعالى وهو يخاطب أكبر مصلح من بني الإنسان على الإطلاق يقول له ولكل حاكم من بعده: ﴿فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران:159)
واعلموا أن حاجة الدولة في طريق البناء والإصلاح إلى متخصصين في ستة مجالات:
1ـ التخطيط والبحث العلمي والدراسات الاستشرافية. 2 ـ مجال التربية والتعليم، والتدريب والإعداد العلمي الثقافي والإشراف على مؤسسات التمهين والتقنيات الحرفية. 3ـ مجال القضاء والعدل وفقه التشريع، والإدارة. 4 ـ مجال الاقتصاد الضامن للضروريات المعيشية مصدرا وإنتاجا محليا، وفي الشؤون المالية كلها. 5 ـ الصحة استشفاء ودواء، والرعاية المجتمعية. 6 ـ الدفاع الأمني العسكري في مؤسسة جيش مؤمن موحد ومتحد متدرب ومتخلق بالعلم والشجاعة والتضحية. وهذه المجالات الستة هي التي تقتضي مناصب وزارية، فعدد وزراء الدولة مهما كانت كبيرة أو صغيرة في عدد السكان، فإن جهازها التسييري يتألف من ستة وزراء. وباقي التخصصات الجزئية الأخرى يقوم بها وكلاء أو مديرون، تابعون للوزراء، أو مصالح ديناميكية متحركة في كل مفاصل الشبكة المجتمعية العمرانية.
وإذا كان الرجال موجودين والحمد لله رب العالمين،كما في جزائرنا الحبيبة، ويبقى فقط أن نتعرف عليهم، وأن نقربهم، ونفسح لهم مجال العمل والإصلاح والمبادرة والتطوير، ثم إن الإمكانات المادية موجودة والحمد لله، فما بقي إلا شيء واحد، وهو الإرادة السياسية الإيمانية. وهي إرادة العزم والنية الصادقة، بتكليف الشباب المتعلمين المتخصصين، كل في ميدانه، وإذا بقطار المدنية يسير نحو المستقبل في الاتجاه الصحيح، في فضاء شرعي تنظيمي حضاري، وبذلك يتحقق الخروج من كل فوضى وعجز وفشل وانتكاسات.
إذا انتهج المصلحون سياسة التخطيط العلمي الحقيقي الذي يُؤَصِّلُه ويُعِدُّه العلماءُ المتخصصون والمفكرون المبدعون الوطنيون حقا وصدقا، وإذا سُلِّمت مناصب التسيير والقيادة والتدبير، لأهلها من أهل العلم والخبرة والتضحية، فلن يكون غريبا ولا مستحيلا أن تكون الجامعة الجزائرية (مثلا) على رأس قائمة الجامعات تفوقا في البحث العلمي والنجاح المعرفي والتطوير التقني، إن شاء الله تعالى، ولن يكون غريبا ولا مستحيلا أن لايبقى أمي في الجزائر في مدة زمنية لاتتجاوز ست سنين. نعم إن الجزائر (مثلا) تحتاج فقط إلى إرادة سياسية حقيقية،.
إن متطلبات التطوير والإصلاح تحتاج إلى التخطيط العلمي الذي يُعِدُّه متخصصون، ويقوم على تنفيذه شجعان مخلصون، فالتخطيط العلمي الشامل الكامل هو مفتاح نجاح المشاريع كلها، ولكن تذكر عنوان هذا المقال:{أسس التَّجَدُّد والتجْدِيد، بين إرادة المصلحين وتمني العاجزين.} فإن الإرادة السياسية التي تريدها الشعوب هي: إرادة المؤمنين الذين يقولون الحق ويفعلون ما يقولون من الحق. حتى لا يكونوا من الذين يُلَامُونَ ويُوبَّخُون، بما جاء في القرآن الكريم. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ لأن كثيرا من السياسيين في العالم العربي يقولون بالتجديد وهم فيما قبل القديم، ويَعِدُون بالوعود، ويقولون بالتجديد والإصلاح، ولكنهم يُكَرِّسون القديم بما فيه من العثرات، ويكررون العقيم بما فيه من الغلطات. قال الله تعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾؟ إن التجديد يقتضي أن يتولى المناصبَ ذَوُو الكفاءات الذين هم أقدر على خوض غمار المبادرات، ولكنها مبادرات قوامها العلم والخبرة، وفق الشروط المدنية المعاصرة. وليتعظ العاجز ومن لايستطيع القيام بمسؤولياته أحسن قيام، كلٌّ من الموظف إلى المدير ورئيس البلدية، إلى الوالي والوزير، فليتعظ كل واحد من هؤلاء بقول الشاعر الحطيئة.
يا باريَ الْقَوْسِ بَرْيًا لَيْسَ يُحْسِنُهُلا تَظْلِمِ الْقَوْسَ أعْطِ القَوْسَ بَارِيهَا
لا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إلاَّ مَنْ يُكَابِدُهُ وَلَا الصَّبَابةَ إلَّا مَنْ يُعَانِيهَا
لا يَسْهَرُ الليلَ إلاَّ مَنْ بِهِ أَلَمٌ ولاَ تَحْرِقُ النّارُ إلاَّ رِجْلَ وَاطِيهَا
لاشك أنكم جميعا تؤمنون بأن القرآن كلام الحق، ومن هذا الحق هذه الآية: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96).
عندما يكتمل إيمان الرعية والرعاة، أي عندما يؤمن كل فرد من أبناء الشعب الإيمان القلبي الخالص، مع العمل الصالح، وعندما يؤمن الحكام كإيمان عمر بن عبد العزيز وصلاح الدين، وعندما يتقون الله تعالى حق تقواه، أي يعملون بأحكام شريعته، عندها يفتح الله عز وجل أبواب الرحمات والبركات والخيرات عليهم وعلى شعوبهم.
ومن التقوى حفظ المال العام للأمة، وأن يقسم ناتج الدخل الوطني على جميع مصالح المواطنين بالقسط، وأن يُجْتَنَبَ الإسرافُ والتبذير. قال الله تعالى:﴿مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر:7)
بماذا استطاع عمر بن عبد العزيز رحمه الله كما ذكرتك سابقا، بماذا استطاع أن يحقق الاكتفاء الذاتي في ظرف سنتين اثنتين فقط، لا في ستين سنة من الاستقلال؟ أولا: بتوظيف علماء أمناء في القضاء فأقاموا العدل بين الناس، وحينها تحرك الناس في أمان واطمئنان فأبدعوا، ثانيا: وبتولية أمناء أتقياء على بيت المال العام، فحافظوا واستثمروا وعمروا. ثالثا: بتنظيم الزكاة وفق أحكامها الشرعية كما هي في القرآن والسنة النبوية، فأنصفوا الأغنياء وأغنوا الفقراء. رابعا: بتنظيم مجلس الشورى من العلماء الفقهاء المجتهدين. خامسا: كان يحرص كل الحرص على إقامة الدين. فقد روي البخاري في صحيحه، خبرا عن عمر بن عبد العزيز، كان الواجب على حكام المسلمين أن يقتدوا به.{كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ، يقول له: إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ، وَشَرَائِعَ، وَحُدُودًا، وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ} (كتاب الإيمان.1/10)