تصدع الديمقراطية: هل نشهد مرحلة ما بعد الدولة الحديثة؟

أ. عبد القادر قلاتي/
لم يكن ردّ فعل الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، حالة عابرة في مسار الدولة الحديثة بمجمل آلياتها السياسية، وإنّما أسس -هذا الفعل – لبداية تصدع الآلية الأقدر والأنجح في نظرية السياسة والحكم في العالم الحديث والمعاصر، وهي آلية الديمقراطية التي حافظت على استمرار مفهوم الدولة كما تشكّل في الفكر الغربي المعاصر، وإذا كانت مجمل الآليات الأخرى التي استندت إليها فكرة الدولة الحديثة قد شهدت تصدعات متتالية وفي مراحل كثيرة، فإنّ هذه الآلية -الديمقراطية – ظلّت تحافظ على شرعيتها كمكون فاعل في النّظرية السياسيّة للدولة، وعندما نقول هذا الكلام؛ فإنّنا نقصد المجال التداولي الغربي، أما الديمقراطية التي ارتبطت بالنظم الفاشلة والمشوهة، التي عرفها العالم الثالث، فإنّها استثناء في قاعدة تحكم وتضبط مفهوم الدولة الحديثة منذ نشوئها في الغرب، لكن ما قام به ترومب في ظلّ مسار ديمقراطية متقدمة وفاعلة -مثل الولايات المتحدة الأمريكية – يجعلنا نعيد النّظر في نجاعة المفهوم وقدرة الضبط الاجتماعي في الحياة السياسية الغربية، فحالة التصدع أصبحت واضحة وظاهرة، وهي بداية حقيقية لتصدع مفهوم الدولة الحديثة نفسها، حيث لا ينفع منطق الترميم كما شهدنا في كثير من التأويلات التي ارتبطت بالنقد الموجه لمجمل الآليات الأخرى، مثل حقوق الإنسان والمجتمع المدني وغيرها من الآليات التي لم تصمد أمام غرور الإنسان وجبروته وطغيانه المادي، فكانت عبارة عن خطاب سلطوي، يستخدم أحيانا للإلهاء والضبط الداخلي، وأحيانا -أخرى – للتدخل في شؤون الغير، من منطلق الاستحواذ والهيمنة المتجذرة في الثقافة الغربية عموماً، ولهذا حق لنا القول أن الديمقراطية كآلية سياسية لم تعد تملك تلك القدرة والصلابة المعرفية التي تغري الشعوب والمجتمعات التي تتطلع إلى النموذج الغربي في السياسة والحكم، بعد أن أعياها نموذج الشمولية والتبعية والاستبداد.
نعم سيشد العالم في السنوات القادمة، نهاية الدولة الحديثة، إذا استمر هذا التصدع، وسيتحدث الفكر الغربي على ما بعد الدولة الحديثة، انطلاقا من رؤية «المابعد» التي طالت الكثير من الصيغ المعرفية (ما بعد الحداثة، وما بعد العلمانية وما بعد الدين، ومابعد …)، في وقت لم نعرف نحن شكلها ولم نذق حلوها أو مرّها.
هل سنسمع عن تنظير فلسفي وسوسيولوجي، يقارب مسألة الدولة بلغة نقدية حاسمة وحازمة، تدفع العقل الغربي للبحث عن نموذج جديد في نظرية الحكم والسلطة، تنسخ النموذج الحديث، وتطرح البديل؟ وهل يمكن أن تكون مقترحات هذا البديل مناقضة للنموذج المعرفي الغربي؟.
لقد فعلها هابر ماس منذ سنوات عندما، دعا إلى ما بعد العلمانية، انطلاقاً من محاضرة ألقاها في كنيسة بألمانيا، وهي دعوة صريحة للتصالح مع الدين، والاعتراف بنهاية العلمانية كمنظومة متحكمة في الدولة والمجتمع، وقد شهدنا كيف بدأ الرئيس الأمريكي الجديد عهدته في يوم التنصيب من الكنيسة في دعوة صريحة وواضحة للتصالح مع الدين أيضا.
أليست هذه التحولات الخطيرة التي يشهدها العالم، منطلقات حقيقية لنا -في العالم العربي والإسلامي – لنعيد النّظر في الكثير ممّا تسرب إلينا من الثقافات الوافدة، وأصبح يشكل -في واقعنا الثقافي – مسلمات وحتميات فكرية ومعرفية، على حساب ما عندنا من تراث فكري أصيل؟. وكأنها منتهى ما أبدع العقل البشري، في حين نرى كيف يتجاوز الغرب الكثير من طروحاته الفكرية والتنظرية التي نشرها في العالم، لعدم صلاحيتها مع ما يستجد من تحولات جديدة، في السياسة والاقتصاد والمجتمع، انسجاما مع رؤيته القائمة على تغيير والتعدد وعدم الثبات، فهل نعي ذلك حتى تتبدل أحوالنا؟.