في رحاب الشريعة

عمر بن الخطاب.. والتخطيط لرعاة اليمن وأرامل العراق/ محمد عبد النبي

هناك علاقة وثيقة بين القراءة والتدبّر وبين الفهم والوعي، ومن لا يقرأ أصلا أو لا يقرأ إلا ما اقتُرح عليه يكون وعيه معدوما أو خداجا، وهناك أيضا فرق بين من يمشي في الحياة بهدف أو مشروع، وبين من لا يفهم الحياة إلا أكلا وشربا ومتاعا !  الأول يفكِّر-بهدفه-في الأغيار، والثاني لا يفكر-بعبثه- إلا في نفسه.

أخرج البخاري (5/15) عن عمرو بن ميمون قال:” رأيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قبل أن يصاب بأيام بالمدينة، وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، قال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حمّلتما الأرض ما لا تطيق (أي بالخراج والجزية) قالا: حمّلناها أمرا هي له مطيقة، ما فيها كبير فضل، قال: انظرا أن تكونا حمّلتما الأرض ما لا تطيق، قال: قالا: لا، فقال عمر لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا، قال فما أتت عليه إلا رابعة حتى أصيب..”.

وأخرج أحمد (1/289)- وصحّح إسناده أحمد شاكر-وأبو داود (4/571)- من دون الجملة الأخيرة- والضياء في المختارة (1/395)- وحسّنه- عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: “كان عمر يحلف على أيمان ثلاث: يقول: والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا بأحق به من أحد، والله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبدا مملوكا، ولكنا على منازلنا من كتاب الله تعالى وقسمنا من رسول الله  صلى الله عليه وسلم، فالرجل وبلاؤه في الإسلام، والرجل وقِدمه في الإسلام (أي سبقه) والرجل وغناؤه في الإسلام، والرجل وحاجته، ووالله لئن بقيت بهم ليأتينَّ الراعي بجبل صنعاء حظُّه من هذا المال، وهو يرعى مكانه”.

حين ننظر في سيرة عمر -رضي الله عنه- ندرك بأن الرجل قفز بدولة المدينة قفزة واسعة إلى الأمام، في مختلف المجالات، من فتح البلاد التي لم تُفتح على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى إنشائه للمدن واستحداثه للوزارات، لكن الأهم من ذلك أن تفكيره كان منصبّا على الإنسان وخدمته، وحين يرنو ببصره إلى اليمن والعراق – وهو في المدينة- ليخطِّط كيف يصل إلى الأرامل والرعاة فيهما فمعنى ذلك أن الرجل ينبئ عن وعي بواجبات للدين، لا يزال يقصرها كثير من المتدينين على الطقوس العبادية، بعد ألف وأربعمائة عام من العهد العمري، وهو الاهتمام الذي يندرج ضمن فهمه أيضا لعدالة هذا الدين، ولمسؤوليات الحاكم، حين تبوِّؤه الرعية الموقع الأول في إدارة دفة الحكم، وسياسة الناس بما يخدمهم ويُصلحهم، في دينهم ودنياهم.

لقد استقرّ في أذهان الكثيرين اليوم -بعد تجارب عديدة- أن المتديّنين لا يَصلحون لشؤون الدنيا، أن يتولَّوا أمر سياسة الناس فيها، عدالةً في الحكم، وتخطيطا في الإدارة، وشفافيةً في المال، نظرا لأسباب كثيرة، قد يكون من أهمها الفصل الفعلي بين الدين والدنيا، حتى أوغل البعض في ممارسة السياسة بمفهومها المعاصر، وأوغل آخرون في كل ما يتعلّق بالدين، بعيدا عن شؤون السياسة والإدارة، فلما استُدرجوا إليها أبانوا عن غير قليل من القصور في فهم واجبات رجال الدولة، أو انغمسوا فيما انغمس فيه مَن لا شأن له في أمر الدين.

هل يمكن القول بأن عمر، رضي الله عنه، والرجال الذين كانوا معه كسروا هذه القاعدة المُستحدثة بفهمهم لواجبات الدين والدنيا معا، وبصدقهم ونزاهتهم، وهي الخصال التي رباهم عليها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو تُرانا نُغفل فوارق الزمان والمكان والأشخاص؟ فنُتّهم بعدم الفقه في السياسة الميكافيلية، التي يضعها معظم الساسة اليوم نصب أعينهم !

الأمر الثابت الذي لا يمكن أن يماري فيه أحد أن سياسة عمر وعدله لا يمكن أن يُمحيا من الوجدان، والثابت أن عدله لم يتكرّر في تاريخ المسلمين إلا لماما، والعقلاء اليوم يتملّون سيرته باشتياق إلى النموذج، ولا مانع عندهم -قبل بلوغ النموذج- من المرور عبر تجارب عقلاء البشر، الذين أثبتوا أن العقل الراشد- ولو لم يكن مسلما- وأن النفسيات السويّة يمكن أن يصلا بالبشر إلى مستوى الحياة الكريمة.

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com