رواية «جســـــور الموتى» لعلي حليتيم شعريــــة اللغة وعمــــق الرؤية وتعـــــــــدد الأصــــوات3
أ.د. عبد الملك بومنجل/
رؤية عميقة
وفخرُ الرواية الثاني أنها مؤسسة على قاعدة من الفلسفة، ورصيد من المعرفة، فهي مكتنزة بالرؤية، مدبّجة، بالثقافة، بالموقف الإنساني، والتحليل النفسي، والتأمل الفكري، والحكمة البشرية.
حين يكون الروائي صاحب فلسفة في الحياة ومذهب في النظر ورصيد من المعرفة، يهب روايته أفقا أوسع من لعبة الشكل ولذة الحكي، وعمقا أحفل باللذة المعرفية ونشوة الفكر. ويمنحها تأشيرة إقناع بالجدوى وإمتاع بالمعرفة لا تمنحها الرواية المفتقرة إلى ذلك. وقد أسعفت الروائي ثقافته المتنوعة وتخصصه في طب الأمراض العقلية، فحفلت روايته بما يدل على ذلك من ألوان الثقافة لغويةً وأدبية، تاريخية وشعبية، نفسية وفكرية، ومن صفحات التحليل السياسي والنفسي والفكري، وإن على حساب تقنيات السرد الروائي في مواضعَ كثيرة.
كانت خطة المؤلف هي الفهم والتفهم والتعاطف قدر المستطاع مع الشخصيات كلها وأطراف الصراع جميعها، في سبيل فهم كليّ لمأساة الجزائر. كانت مهمته تحليل المأساة وتنوير العقل بأسرارها، وتحرير الوجدان من ركام الأحقاد والأوهام التي علقت بها، ولكن بطريق الفن لا الخطابة أو التأريخ أو الفلسفة، إذ الفن أقدرُ على ذلك بحكم لطف مدخله إلى النفوس، ومرونة مخالجته للعقول من باب المشاعر.
ترك الروائي شخصياته تتكلم لتكشف عن جذور أفكارها ودوافع أفعالها والمسالك شبه الحتمية التي تُسلك فيها مشاعرُها وأحلامها في طريق يفقد فيها الإنسان إنسانيته، والقلب وجدانيته، فلا يبقى سوى نوازغ الحقد ونوازع الانتقام والقتل تتفجّر أشلاء في كل مكان.
أمّا «الإرهابي» قائد كتيبة الأهوال «أبو البراء» فهو ابن نشأة ريفية بائسة جاهلة، وتديّن مختل لم يأخذ حظه من التوازن والذكاء والذوق، ثم صادف منظومة الطغيان والفساد والقمع لدى سلطة لم يكن يهمها سوى استمرار امتيازاتها.
لقد كان مهيأ بحكم خيباته زمن الطفولة والشباب لأن يأخذ له وظيفته المناسبة في الجبل:
«جرّت عليه خيبة الباكالوريا وتديّنه الزائد الذي وضعه في مواجهة مجتمعه، وذهاب جاهه ومكانته في البيت والحي والمسجد، بعد أن تحولت صورته في الناس من الطالب المأمول إلى العاطل المطرود، ومن الإكبار إلى الاحتقار، ومن القدوة إلى الشذوذ، فلم يعد نادرا أن يغضب عليه أبوه أو أن يسمعه من الكلام النابي ما لا يحب ولا يشتهي أمام أمه وإخوته، بل وأمام الجيران، مما يدفعه للغضب والمبيت خارج البيت، تارة عند إحدى خالاته، وتارات أخرى ساهرا عند خلّانه وأترابه من عاثري الحظ المطرودين من البيوت في العراء بدل الرقاد في المطبخ بعد أن غدت غرفة النوم الوحيدة لا تسعه وإخوته الأربعة.
وجد هؤلاء الأتراب في أبي البراء العزاء والسلوى، والراحة والمأوى، فاتبعوه في تديّنه دون تردد، تديّن سهل للفهم بسيط في الالتزام، يوائم نفسياتهم وما فيها من عدوانية وخصومة، حتى إذا قويت الصحوة الإسلامية واشتد عودها، وجد شباب المدينة أنفسهم فريقين: الناجحون، والتفوا حول الشيخ أحمد إمام القرية وشيخها، والراسبون، والتفوا حول أبي البراء معهم الكتب والأشرطة التي تأتيهم من السعودية وسطيف والجزائر العاصمة.» (ص25-26)
هذه صورة وافية عن شطر من المأساة في جذرها المتهيء وثمرتها الكالحة. صورة يمتزج فيها التفسير النفسي والتوثيق السياسي لتيارين مختلفين من تيارات الصحوة الإسلامية كلاهما كان وقودا للمأساة التي هيأ لها مُخرج المسرحية نتيجة مدمرة مُرّة على التيارين كليهما وعلى الوطن برمته.
التيار الآخر يمثله «الشيخ أحمد» و«منير».. تيار النجاح في الدراسة، والرجاحة في العقل، والحكمة في التصرف، والاعتدال في التديّن، والإخلاص للدين، والوفاء للإسلام والأمة، والتوازن بين العقل والعاطفة، وإيثار الحق والمنفعة العامة على الهوى والغريزة. التيار الذي ذهب ضحية صدقه واعتداله وذكائه وتوازنه، إمّا على يد القتلة من مٌخرجي المسرحية المأساة كما حصل للشيخ أحمد، وإمّا على يد شركاء الجبل: التيار الذي تقوده العاطفة الهوجاء، والحقد الأعمى، والتديّن المختل، والجهل المركّب، والشجاعة الحمقاء!
يمنح المؤلف فرصة المرافعة عن الموقف لأبي البراء ممثل هذا التيار. يمنحه الفرصة فيبدو على قدر غير قليل من قوة الحجة: «إن لم نقتلهم سيحوّلون هذه البلاد إلى دار للكفر والعلمانية والإلحاد! يقول أبو البراء لقلبه.. لماذا يدعون إلى الديمقراطية ثم يحيصون عنها حيصا حين يفوز الإسلام في الانتخابات؟ أليس الإسلام رحمة للعالمين؟.. كيف يدّعون الإسلام ثم يكون قانون التبني هو أول قانون يقرّونه بعد الانقلاب؟.. أليس هذا يعني أن حربهم الحقيقية هي على الإسلام لا على الإرهاب؟» (ص29)
ولكنّ للصورة شطرا آخر، وللمأساة جذرا أعمق وأقدر على الانتشار وأخطر. في الجانب الآخر تنتصب مأساة ذلك الجندي الذي يُخرم شبابُه الغض في حرب عمياء لا يعرف غايتها سوى المُخرج. يخاطبه الراوي متعاطفا معه متأسفا على مأساته:
«نم قرير العين!.. ستذهب إلى رب ودود رحيم، وتقف بين يدي الملك العدل الذي لا يُظلم عنده الجنود.. ستقدّم له أعذارك وهو يحب أن يقبل الأعذار.. ستقول له إنك كنت بيدقا تافها في رقعة الشطرنج الكبيرة يحرّكونك إقبالا وإدبارا، يمينا وشمالا لتقتل أو تموت فداء للمخرج المفدّى الجبان، وأنك لم تكن تملك إلا أن تستجيب لنداء الخدمة العسكرية وإلا واجهك الحبس أو الضياع.. بدون الخدمة أنت محكوم عليك بالضياع وبالخدمة أنت محكوم عليك بالموت..» (ص14)
هو جزء ضروري من صورة المأساة. أو هو لون من التحليل السياسي لوجه من المأساة قد يضطرب في قراءته ضحاياها من الطرفين. وهناك جزء آخر نجده عند الملازم سمير. سمير الذي لا يريد للحرب أن تنتهي:
«والحق أن سمير لا يريد لكل هذا أن ينتهي، ألم تعد بيده القوة والثروة بعد أن كان خالي الوفاض لا يُؤبه له؟.. ألم يعد هو يحيي ويميت؟! ألم يعد يأمر وينهى في الجموع؟ ألم يعد يرى في عيون الرجال الذين كان يستحي حتى من مجرد رفع بصره في وجوههم الخوف عند مرورهم به في الحواجز، أو عند وقوفهم بين يديه في المداهمات، ويقرأ فيها الرجاء الصامت أن يعطف عليهم ويمنّ عليهم بإطلاق أرواحهم مع أنهم لم يرتكبوا جرما ولا أتوا خطأ، وهو يتعمّد أن يطيل اللحظة حتى يتذوّق النشوة؟ ألم يعد يسب ويشتم ولا أحد يقول له «احشم» كما كانوا يقولون له وهو غلام يفع يلعب في الطرقات؟ ألم يعد يملك الرقاب والأعراض والأموال ويدخل بيوت الناس، بل وغرف نومهم، دون استئذان ولا معترض عليه، وهو الذي كان يُطرد هو وأترابه من أرصفة الدور حين يجلسون يلعبون «الدامة» في وقت الظهيرة أو بالليل؟.. ألم يعد يأخذ ما حلا له من المال والمتاع ولا مستنكر أو شاك؟..» (ص69).
هو جزء من المشهد يوشك أن يفسّر كل شيء. تحليل نفسي لدوافع استمرار حرب قذرة تهلك الحرث والنسل، والأمن والقيم، وتفسد كل شيء. جزء من المشهد يسبر غور حالة وسط بين المجرم والضحية فلا هي حالة مجرم خالص ولا حالة ضحية بريئة، بل حالة مجرم ضحيةٍ لحرمانه القديم من التقدير والجاه، وانتفاشه الجديد بسلطة الأمر والنهي والتخويف والمنّ: المنّ على الأبرياء بإبقاء أرواحهم في أجسادهم، كأنه الربّ !
هذا يفسر المأساة كلها حين نرتقي درجات في سلّم المسؤولية، وننزل دركات في سلّم الإنسانية، فإذا مُخرج المأساة يُمدُّ له في نعيمه وانتشائه كلما ترامت أشلاء القرابين من هنا أو من هناك، وتنازل الناس عن كرامتهم ودينهم وحتى عن خبزهم وحريتهم، في سبيل قدر من الاستقرار ولون من العيش !
كل ذلك تناولته الرواية في مواضعَ متفرقة من فصولها، فكشفت بالحفر النفسي والتحليل السياسي والتأمل الفكري جوهرَ المأساة ومكمن الداء.
وأحسب أن المؤلف اتخذ له من «منير» ستارا لعرض رؤيته للوجود وتحليله للصراع وموقفه من طرفَي الأزمة وضحايا المأساة.. منير المفكر المثقف، الرزين الحكيم، الطاهر العفيف، الصادق الأمين، الراغب في إدارة الصراع السياسي، بل الحضاري، بذكاء وعلم، وبرؤية واقعية شاملة لا ترمي بالأبرياء في المحرقة العمياء.
من خلال «منير» بلّغ المؤلف رسالاته كلها: رسالة الموقف من مأساة كل أطرافها ضحايا إلا مخرج المسرحية. ورسالة التعاطف مع ضحايا المأساة من الطرفين. ورسالة التبرئة للدين الحق والوطنية الحق من الصورة الشائهة التي قدّمها الجهلة والظلمة من الجهتين. ورسالة المنهج الذي ينبغي أن تنهجه الصحوة الإسلامية في عالم يقوده الذكاء لا الحماسة. ورسالة الحب الطاهر السامي الذي لا يجد صعوبة في الجمع بين العقل والعاطفة، وبين القلب والقضية، وبين الاستمتاع بالجمال والتحرر من عبودية الشهوة، على النحو الذي جسده حب «منير» و»زهراء»، وكشفت عنه حواراتهما والرسائل.
لقد جاءت هذه الرواية لتكشف بالفن ما حجبه الدخان الكثيف: «يتصاعد الدخان فوق الجبال.. دخان الصواريخ والحرائق.. الدخان يلخص كل شيء.. لم تعد الرؤية ممكنة في هذا البلد.. كل الخطة مرهونة بحجب الرؤية.. إن كشفت اللعبة فسيسقط كل شيء.. دخان الجبال ودخان الأزمة ودخان التضليل الإعلامي ودخان ماضينا وأمراضنا القديمة أنتج دخان المحرقة الذي لن تبدده إلا أعاصير الوعي..» (ص255) وهذه الرواية موجة من أمواج هذه الأعاصير.
البنية السردية
اللغة جزء من البنية، وقد تحدثنا عنها. والرؤية تلوين على البنية، وقد رصدنا ما حملته من المعرفة. وبقي السؤال: كيف بدت خصوصية الفن الروائي خارج اللغة والرؤية اللذين هما حظ مشترك بين الفنون الأدبية جميعها؟
المقام لا يتسع لتفصيل الجواب، فلنجتزئ بإجماله:
-أما أركان البناء السردي فحاضرة جميعها: الزمان والمكان والشخصيات والأحداث والسرد والوصف والحوار، والحبكة التي تحبك هذه الخيوط جميعها على نحو مقنع، والأسلوب الذي ينسج هذه الحبكة على نحو ممتع.
-وأما النحو الذي اجتمعت عليه هذه الأركان فهو التماسك والمنطقية والوظيفية وتعدد الأصوات وغلبة الوصف النفسي والعصف الفكري على الأحداث الخارجية.
-وأما ما ينبغي أن تحدثه الرواية الناجحة من التشويق والإثارة فالأمر بينَ بين: حيث تكون الأحداث، ويجري الحوار، وتكشف الشخصيات عن أسرارها عبر تقنية الحديث النفسي أو الحوار الداخلي، وتتأنق اللغة وتسبح في شاعريتها، فإن الإثارة تحضر بأقدار متفاوتة، والتشويق يعمل عمله على نحو شبه مثالي. وحين تفتر الأحداث، ويتمدد الحديث النفسي ممتزجا بالتحليل السياسي أو الفكري، ويتدخل المؤلف بطريقة أو بأخرى لاستعراض ثقافته الدينية أو الفكرية أو السياسية، أو لاستعراض مهارته اللغوية، على امتداد صفحات طويلة لا يتخللها سرد ولا حدث ولا حوار، فهنا تفتر الإثارة ويتجمد التشويق، ونشعر أننا خرجنا من عالم الرواية إلى عوالمَ أخرى ضعيفة الصلة بالسرد الروائي.
إن رواية «جسور الموتى» هي ضرب من التأريخ لحقبة تاريخية مريرة من تاريخ الجزائر المعاصر. ضرب يُحسن توظيف الفن واستثمار اللغة وتطويع الفكر والمعرفة، في سبيل تشييد خطاب فني يرمم ما خلفته المأساة من خروق عميقة وجراح غائرة على مستوى الشعور والوعي. وقد تميزت عن غيرها من الروايات التي تناولت المأساة نفسها بتعدد الأصوات وموضوعية الطرح وتعاطفية الروح وشمولية الرؤية وعمق التناول؛ وتلك مزايا تجعلها جديرة بالقراءة والاحتفاء، وتُهوّن مما يكون اعتراها من تفريط في بعض شروط البناء.
أستاذ النقد الأدبي بجامعة سطيف2