مقالات

في حضـــرة صاحبــة الجــلالـــة

د/ عاشور توامة/

اللغة العربية هي لغة الجمال والحسن والبيان، إن لم نقل هي الجمال نفسه، والحسن وتمامه، والبيان وآلته، طالما لم يشب لفظها تحريف، أو يمس معناها حيف، ونطقها لحن وزيف في إخراج الكلم عن مواضعه، والبعد عن مراميه، فهي بحق لغة إفضاء واقتضاء، ولغة جمال وصياغة وتعبير وأداء، وهندسة وبناء، وجدلية فكر وإغناء، فهي بحق معين لا ينضب وكنز لا يفنى، تلك اللغة التي تغزّل بها كثير من الشعراء، ومن أبرزهم شاعر النيل والبيان حافظ إبراهيم في قوله:
أنا البحر في أحشـائه الـدُّر كامنٌ
 فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي
وَسِـعَتُ كِتابَ الله لَفـظاً وغايـةً
وما ضاقَت عن آي به وعِـظـــــاتِي
و صبري شماس:
لغـة حبـاها الله حرفاً خـــالداً
فتضوعت عبقاً على الأكوان
وعلي الجارم:
يا ابنة الضادِ أنتِ سـرٌّ من الحسن
 تجلـّى على بني الإنســان
وعثمان قدري:
لله درُّ لسـان الـضـاد منـزلـةً
 فيها الهدى والندى والعلـم ما كانا
وأمير الشعراء أحمد شوقي:
إنّ الّذي مـلأ اللــغات محاسنًا
 جعلَ الجمالَ وسرّه في الضـــّاد
فلا غرو أنها اللغة التي تشعرك بالانتماء الفسيح؛ وجماله وخلود مجده، فاللغة العربية بشعرها ونثرها وتعابيرها البديعة وكنوزها النفيسة وإبداعاتها وتجلياتها؛ يحقق بها العربي طموحه وأشواقه، ويفضي عليها من غدق روحه ووجدانه، وروية فكره وأحلامه، وتصوراته للطبيعة ومهجتها، ومرائي الكون وزينة الحياة وبهجتها، ولهذا وجب التمسّك بها، باعتبارها رمزا للوجود العربي، ومفاخرا لأمجاده، وذخيرة لأبنائه، فهي الحضارة في أسمى معانيها، والعلوم في شتى مبانيها، والوطن حين يغيب معنى الوطن، والتّاريخ حين يغادر صانعوه، والجغرافيا حين يحُاول المساس بخرائطها، والحقوق حين يُداس على شرعيتها، إنها المَوئل لكل شارد من أبنائها، والوطن الذي ليس لنا ملجآ سواه، والقلب الذي لا نستفيق إلا على نبض هداه.
فهي اللغة التي أوصى بتعلمها الخليفة العادل عمر بن الخطاب – رضي الله عنه وأرضاه- في مقولة نسبت إليه:
‘’تعلّموا العربية فإنها تُنبت العقل وتزيد في المروءة’’.
وهي اللغة التي قال عنها المستشرق الفرنسي رينان:
«من أغرب المُدْهِشَات أن تَنبت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرُّحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسب نظام مبانيها، ولم يُعْرَف لها في كل أطوار حياتها طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبَارى، ولا نعرف شبيهاً بهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدرج وبقيت حافظة لكيانها من كل شائبة«.
وهي اللغة التي قال عنها الثعالبي:
«اللغة العربية خير اللغات والألسنة، والإقبال على تفهمها من الديانة، ولو لم يكن للإحاطة بخصائصها والوقوف على مجاريها وتصاريفها والتبحّر في جلائلها وصغائرها إلا قوة اليقين في معرفة الإعجاز القرآني، وزيادة البصيرة في إثبات النبوّة، الذي هو عمدة الأمر كله، لكفى بهما فضلاً يحسن أثره ويطيب في الدارين ثمره».
والتي قال عنها الرافعي:
»ما ذلّت لغةُ شعبٍ إلا ذلّ، ولا انحطَّت إلا كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرضُ الأجنبيُّ المستعمرُ لغتَه فرضاً على الأمةِ المستعمَرَة، ويركبهم بها ويُشعرهم عَظَمَته فيها، ويَستَلحِقُهُم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أما الأولُ: فحبْسُ لغتهم في لغتِهِ سِجناً مؤبداً. وأما الثاني: فالحكمُ على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً. وأما الثالث: فتقييدُ مستقبلهم في الأغلالِ التي يصنعُها، فأمرهم من بعدِها لأمرِهِ تَبَعٌ …».
لذلك فإن اللغة مظهر من مظاهر التاريخ. والتاريخ صفة الأمة، كيفما قلَّب أمر الله، من حيث اتصالها بتاريخ الأمة واتصال الأمة بها وجدتها الصفة الثابتة التي لا تزول إلا بزوال الجنسية وانسلاخ الأمة من تاريخها.
وهي اللغة التي قال عنها الفرنسي وليم مرسيه:
«العبارة العربية كالعود، إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تُحَرَّك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر مَوكباً من العواطف والصور».
وهي اللغة التي تغزّلت بها يوما فقلت:
أهدهد الليل كي ينام على مرآى محياك… حتى يصحو النهار على مغرم رمقته عيناك … وليس لي في الاشتهاء سوى تقاسيم حروفك إذ افترشت بساط صفح فما أحلاك … ؟ لله درك … لله درك كيف أبدعت في قدٍّ مُوجز ليس له سابق سواك…كم فتنت قبلي من الهائمين في شآبيب الحبّ فما أغراك…؟ فما أغراك؟ وكم قَطعتُ من الأعمار والأسفار وليس لي دون العبور تأشيرة لولا رضاك…كم ارتويتُ من لبنِ نهدٍ محُلَّى بنغمِ شهيٍّ ونبر شَذاك…؟! كم عانقتُ ألفاً وياءً وما اكتفيت من بنات فكر؛ حباك … !؟ وكم حلمتُ طائرا في سماك…؟ وما سهدتُ يوما إلا ونار الجوى توريها شفتاك… وما عشقتُ هوى إلا وأفناه هواك… وما رمتُ لأجلك حروفا إلا وكان القصيد والقفي مرعاك…

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com