الخــطـابــــة/ محمد الصالح الصديق
سألني أحد الطلبة الجامعيين عن الخطابة عند العرب، فقلت له: إنها نوع من النثر الفني، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: خطب سياسية، وخطب دينية، وخطب قضائية.
فالسياسية هي التي تلقى عادة في مجالس النواب والأحزاب السياسية؛ وعند تعبئة الجماهير الشعبية للانتخابات المختلفة، والدينية هي خطب الوعظ والإرشاد في المساجد وغيرها، والقضائية هي خطب أعضاء النيابة وأضرابهم.
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أفصح العرب على الإطلاق، لهجة، وأبلغهم حجة، وأعذبهم كلاما، وأقواهم تأثيرا، وأغزرهم حكما، وأقدرهم على امتلاك القلوب والعقول، ومخاطبة كل قبيلة بلهجتها، ومن خطبه صلى الله عليه وسلم عندما نزل عليه قوله تعالى:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214]، قوله في عشيرته وأقاربه: “إن الرائد لا يكذب أهله، والله لو كذبت الناس جميعا ما كذبتم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني لرسول الله إليكم خاصة، وإلى الناس كافة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا، وإنها لحسنة أبدا، أو نار أبدا”.
ومن خطبه صلى الله عليه وسلم أيضا في جمع من الناس قوله بعد الحمد لله تعالى والثناء عليه: “يا أيها الناس إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وأن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، فإن العبد بين مخافتين: أجل مضى لا يدري ما الله فاعل فيه، وأجل باق لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، فو الذي نفس محمد بيده، ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار”.
ويشتد انبهارك – قارئي الكريم- من هذا الكلام النبوي الرفيع عندما تستحضر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك يذكر على لسانه هذا الكلام الفصيح البليغ، الذي يعجز عنه العالم الذي قضى عمرا طويلا في القراءة والكتابة والخطابة؛ إنه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى كما قال تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى* عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم:4/5]، فكان كلامه قويا عذبا يسري في كيان مستمعه ووجدانه مسرى البرء في السقم، أو الروح في البدن، لا لمجال الأسلوب فحسب وروعة البيان، وإنما لتأثير فعال لا تدركه حاسة، ولا تصفه لغة، ولا يعرفه إلا من يستشعر من أعماقه جلال النبوة، وقداسة الوحي.