سنــــة انقضت…

يكتبه د. محمّد قماري/
تلقيتُ كما تلقى أغلبكم رسائل تهنئة بحلول السنة الجديدة، ولعل هذه الرسائل هي التي كسرت رتابة الإحساس بتعاقب الأيام في السنة المنقضية، فأيامها تسطحت كأنها صفحة واحدة، فطيلة أشهر تعطلت الصلاة في المساجد، وحتى صلاة الجمعة التي كانت معلمًا نهتدي به على نهاية الأسبوع لم تقدم لأشهر طويلة، فغاب عنا الشعور بالزمن!
وما الحياة إلا تلك المشاعر التي نحياها، فالإنسان الذي يترقب أمرًا مفرحًا تجده يستبطئ سير الأيام بل الساعات والدقائق أملاً في بلوغ بغيته التي يأملها، والسجين أو المريض يشعر بثقل الوقت وأن عقارب الساعة متوقفة، وقد يشعر من يلاقي حبيبا له أن الزمن يركض، وهذا المعنى هو الذي رصده ابن زيدون وهو يخاطب ولادة:
إِن يَطُل بَعدَكَ لَيلي فَلَكَم…. بِتُّ أَشكو قِصَرَ اللَيلِ مَعَك
والليل هو الليل والزمن هو الزمن، واليوم فيه أربع وعشرون ساعة، والساعة من ستين دقيقة، لكن مشاعر الإنسان هي التي تتقلب مع الأحوال، والإنسان كائن مستقبلي يحب أن يرى الأيام أمامه، ليخطط لفجوره: «بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ، يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ» (القيامة/5-6)، ولأجل ذلك جاء جواب صاحب الرسالة، صلى عليه وسلم، إذ جاءه أَنَّ أَعرابيٌّ قَالَ يا رسول اللَّه: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ (رواه مسلم)…
وليلة الجمعة، وقت عبور عقارب الساعة لمنتصف الليل، حاولت أن أستشعر دخول العام الجديد، وتذكرت تلك الرسائل التي وصلتني، وأغلبها جاهز لا يتطلب من أصحابها إلا الضغط على زر النسخ، ثم زر اللصق وهي ذات الرسالة التي تنتقل بين آلاف البشر، ولا تستدعي أي جهد من مرسلها، وربما لا ينتبه حتى لتفاصيل تصميمها…
وتذكرت تلك الأيام من طفولتي، والجيل الجديد لا يعرفها، أيام كان المغتربون يرسلون رسائل مكتوبة ترسل عبر البريد في كل سنة، وإن كانت صياغتها رتيبة فإن كل أقارب الغائب يجتمعون حولها، ويسري خبر وصولها في الحي كله، بأن فلان أرسل رسالة وأنه بخير وعلى خير، وربما قد مضى على تحريرها أكثر من شهر!
إننا في زمن نكاد نلتصق فيه بوسائل التواصل المختلفة، ونتخاطب فيه مع الناس بالصوت والصورة، لكن الذي غاب هو المعنى، هو ذلك الشعور العاطفي العميق الذي يربط القلوب، كذلك ضاع الإحساس بالزمن على الرغم من وفرة أسباب رصده، ففي جهاز الهاتف توجد الساعة واليومية غير أن ذرات الثواني والدقائق تمر في الغالب دون معنى!
أين تلك المناجاة مع حلول المساء: اللهم هذا ميقات إدبار نهارك وإقبال ليلك وأصوات دعاتك فاغفر لي؟ وأين ذلك الرصد لميلاد الأهلة مع مطلع كل شهر قمري، والأعين تلتصق بالسماء: اللهم اهله علينا باليمن والايمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله؟
بل أين تلك الرسائل التي كان يدبجها الأدباء، وكانت قطعًا فخمة من النثر الرفيع، وبعضها نشر حتى كادت أن تكون فنًا أدبيًا قائما بذاته يسمى (أدب الرسائل)؟
وفي السياق ذاته غاب معنى رحيل سنة وحلول أخرى، فالتاجر يستعرض حصيلة نشاطه خلال عام، يراجع دفاتر ديونه سواء ما كان منها له أو عليه، أليس انقضاء عام من أعمارنا أجدر بهذه المراجعة، نستعرض فيها أرباحنا وخسائرنا، وإلا فعلامَ الفرح بسلخ قطعة من أعمارنا؟
هل نفرح بما انقضى أم نفرح بما هو آت؟ الأكيد أن المستقبل لا نعرف تفاصيله، ولا نملك إلا الدعاء بأن يجعل الله غدنا خيرا من أمسنا، والفرح إذن بما لا نعلم تفاصيله ضرب من الرعونة، وقد يجدر الفرح بمن عمل وانجز، فما بال من عجز وقصّر؟ بمَ يفرح ويبتهج؟
تلك هي المسكنات التي عملت الحضارات على تعميمها، ففرعون: «قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى» (طه/57)، وكذلك يحرص الفراعنة عبر العصور على اختلاق أيام للزينة، تسكن آلام الكادحين والمقهورين، وتجعلهم سكارى لبعض الوقت، يخدرون آلامهم وشقواتهم…
وحين جاءت الرسالة الإسلاميّة ربطت الأعياد والأفراح بإنجاز الأعمال الجماعية التي تشترك الأمة كلها فيها، فعيد الفطر جاء تتويجًا لصبر طويل ونضال في تدريب النفس على تجاوز رغباتها الأصيلة في أوقات محددة، وعيد الأضحى يأتي بعد اجتماع طوائف من المسلمين على صعيد واحد، يؤدون عملاً واحدا، حيث تذوب المظاهر، وتمحى الإثنيات والألقاب والألوان، كلهم يلبي دعوة رب العالمين وخالق البشر جميعًا…
هذه هي المواقيت التي تعطي لظاهرة الزمن معنى، مواقيت الانجاز والعمل، أما ذلك الفرح الأبله المفتعل، فلا معنى له وإن ظن الناس أنهم انتصروا عند لحظة انحراف عقرب الساعة من منتصف آخر ليلة من ديسمبر، وأنهم ابتهجوا باستقبال سنة أخرى من حياتهم.