ماذا بقي من الصراع العربي الإسرائيلي؟ – 02

أ. عبد القادر قلاتي/
بعد أن اختارت الأنظمة العربية الوظيفية سياسة الاستجابة والخضوع للمشروع الاستعماري الغربي، والتسليم بفرض منطقه في إدارة العالم، رأينا شعوبًا أخرى، تصنع تحالفات وتكتلات سياسية واقتصادية، لإزاحة السيطرة الغربية، والتمكن من الاستقلال الذاتي بعيداً عن الهيمنة والتسلط المعهود في السياسات الغربية تجاه دول العالم؛ كلّ ذلك يتمّ بالتصالح مع الشعوب، وإبراز الإرادات الوطنية الخالصة، انطلاقاً من فرض سياسات التحديث ومكتسبات النّظرية السياسية في إدارة الدولة الحديثة، حيث تتحوّل السلطة الفعلية في هرم الدولة إلى أداة تسيير للحكم، تحكمها تقاليد التداول على الحكم، وليس جماعات مالكة لزمام الدولة ومقدراتها تتصرف فيها كما تشاء وتريد، كما هو الشأن في بلداننا العربية، التي أسميها أنظمة ما قبل الدولة الحديثة، حيث المجال السياسي، تطبعه الرؤية التسلطية العصاباتية التي تدير شؤون الدولة بالمزاج والمصالح الجماعاتية الضاغطة والمتحكمة في مفاصل الدولة كلها، ولو كان الأمر غير ذلك لما استطاعت الأنظمة المطبّعة مع الكيان الصهيوني، أن تخرج عن إرادة شعوبها وتفرض اتفاقاً تدرك مسبقاً أنه مرفوض شعبياً، لكنها تفعل ذلك استجابة لوظيفتها الأساسية؛ وهي التبعية المطلقة للمشروع الاستعماري الغربي الذي ظلّ يحافظ على عروشها، ويحميها من كلّ محاولات التغيير التي عرفتها المجتمعات العربية منذ الاستقلالات الوطنية، رغم ظلمها واستبدادها وفشلها في غدارة الدولة.
لم يبق من الصراع العربي الصهيوني، إلاّ روح خافتة تسري في جسد الأمة العربية والإسلامية، وتذكر الأجيال بمهمتها الحضارية تجاه القضية المركزية، انطلاقا من ذلك المخزون الديني الذي ظلّ يحافظ على كيان الأمة، بالرغم من النكسات والخيبات التي عرفناها في تاريخنا الحديث والمعاصر، وإذا كان الصراع مع الكيان الصهيوني في صورته المعهودة منذ زرع هذا في فلسطين، لم يعد حاضرًا في الخطاب الفكري العربي المعاصر، بسبب السياسات العرجاء التي تسربت إلى مجالاتنا السياسية والثقافية، وانتهجها البعض منا، خضوعاً للإرادات الدولية، فإنَّ بنية هذا الخطاب لم تعد تملك -أيضا- صلابة الإقناع والتأثير التي عهدناها في الخطاب الفكري العربي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت الحياة الثقافية تعجُّ بمفردات المقاومة والممانعة تجاه المشروع الليبرالي الامبريالي الغربي، تجد ذلك واضحًا في الأدب والفكر والفن والمسرح، ولم يخترق هذا الواقع إلاّ ما أقدم عليه السادات عام 1979 بإجراء اتفاقيات كامب ديفيد، التي لم توصف يومها إلاّ بالخيانة والخروج عن الصف العربي المنخرط فكرًا وسلوكًا في الصراع مع الكيان الصهيوني، أنظمة وشعوباً، وإذا كنّا اليوم -كلّ الشعوب العربية – نسأل ماذا بقي من هذا الصراع؟ فلأننا لم نفهم سبب الهرولة نحو التصالح مع هذا الكيان، بالرّغم من أنه لم يلتزم بالقرارات الدولية وما أكثرها، ولم يردّ الحقوق لأصحابها الشرعيين، فكيف يتحوّل هذا العدو المغتصب إلى صديق حميم؟ في وقت تشهد العلاقات العربية البينية حالة من الانقسام والعداء، لا يفسرها إلاّ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم – الذي قال فيه: «سألتُ ربِّي ثلاثاً فأعطاني اثنتينِ ومَنعني عن واحدةٍ. سألتُ ربِّي أن لا يسلِّطَ عليْهم عدوًّا من غيرِهم فيجتاحُهم فأعطانيها وسألتُهُ ألاّ يُهلِكَهم بسنَةٍ عامة فأعطانيها وسألتَهُ ألاّ يجعلَ بأسَهم بينَهم فمنعنيها».