معالجات إسلامية

نعمـــــة نزول الغيـــث

د. يوسف جمعة سلامة*/

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}.
لقد أنعم الله سبحانه وتعالى علينا وعلى البشرية جمعاء بِنِعَمٍ لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، ومن هذه النّعم نعمة نزول الغيث، حيث أكرمنا الله سبحانه وتعالى في هذه الأيام بنزول الغيث والحمد لله، فكان غيثاً مُغيثاً، غَدَقًا طَبَقاً بفضل الله عزَّ وجلَّ، والجميع يحمدون الله عز َّوجلَّ على نِعَمِهِ التي لا تُعَدّ ولا تُحصى.
إنّ الغيث المبارك الذي يُنزله الله سبحانه وتعالى من السماء رزقاً للعباد وحياةً للأرض وما عليها، مَا هُوَ إِلاّ آية من آيات الله تعالى، ومظهر من مظاهر رحمته بعباده، فقد أنزل الله سبحانه وتعالى الماء الذي جعله سبب حياتنا، ومما يدل على عظم نعمة الماء وصفُ الله سبحانه وتعالى له بالبركة، وأحيانا بالطّهر، وأحيانا بأنه سبب للحياة، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ}، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاءً طَهُورًا}، وقوله تعالى أيضا: {وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ}.
وجعلنا مِن الماءِ كُلَّ شيءٍ حَيٍّ عندما نتدبّر آيات القرآن الكريم فإننا نجد أَنَّ هذه الآيات قد تحدثت عن نعمة الماء في مواطن متعددة، فتارة تُبين للناس أنه بسبب الماء تتحول الأرض اليابسة الجدباء إلى أرض نامية خضراء، كما في قوله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}، وتارة يرشدنا القرآن الكريم إلى أنه بسبب الماء تُوجد الأشجار الباسقة، والفواكه اليانعة، والنباتات النافعة، كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثمَرِهِ إِذَا أَثمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}، وتارة أخرى يخبرنا القرآن الكريم بأَنَّ الله سبحانه وتعالى قد أوجد من الماء كلّ شيء حي، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}.
الرسول صلى الله عليه وسلم ونعمة نزول الغيث
إِنَّ من فضائل فصل الشتاء أَنَّ الله سبحانه وتعالى قد امتنّ فيه على عباده بِنِعَمٍ عظيمة، وفي مقدمتها نعمة نزول الغيث، حيث إِنّ المسلمين يسعدون كثيراً حين يُكرمهم الله سبحانه وتعالى بنزول الغيث، فقد علّمنا رسول الله – صلّى الله عليه وسلَم – ما يُقال عند نزول الغيث: كما جاء في الحديث الذي روته عائشة – رضي الله عنها-: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا رَأَى المَطَرَ قَالَ: «اللهمَّ صَيِّباً نافعاً»).
* أما إذا اشْتَدّ المطر، فقد جاء في الحديث عن أنس– رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ (الروابي) وَالظِّرَابِ (الجبال الصغيرة) وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ).
* ومن هديه – صلّى الله عليه وسلّم– أنه كان يتعرّض للمطر ببدنه، كما جاء في الحديث الشريف عن أنس – رضي الله عنه – قال: (أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ برَبِّهِ عزَّ وجل»).
* كما وبَيّن – صلّى الله عليه وسلّم – أن َّوقت نزول المطر من مواطن إجابة الدعاء، لقوله- صلّى الله عليه وسلّم-: (إِثْنَتَانِ لا تُرَدَّانِ أو قال قلَّّ ما تردان: الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، أو عند البأس حين يُلحِم بعضهم بعضاً)، وفي رواية عن سهل بن سعد –رضي الله عنه– عن النبي– صلّى الله عليه وسلّم- قال: (وَتَحْتَ الْمَطَرِ).
الاستغفار … ونزول الغيث
إِنَّ من أعظم أسبابِ نزول الغيث كثرة الاستغفار، فقد أمرَ الله سبحانه وتعالى عباده بالاستغفار عند انحباس المطر عنهم، [قال الشعبيّ: خرج عمر يستسقي فلم يزدْ على الاستغفار حتى رجع، فأُمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيتَ؟ فقال: لقد طلبتُ المطر بمجاديح السماء التي يُستنزل بها المطر؛ ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا}.
وقال الأوزاعيّ: خرج الناس يستسقون؛ فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اللهمَّ إنّا سمعناك تقول: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} وقد أقررنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟! اللهمَّ اغفر لنا وارحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسُقُوا.
وقال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولدًا، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلتُ من عندي شيئا، إِنّ الله تعالى يقول في سورة «نوح»: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا*يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا*وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ أَنْهَارًا}.
الصدقات … وتنزل الرّحمات
إِنّ إخراج الزكاة والصدقات سببٌ لنزول رحمات الله سبحانه وتعالى، فالصدقات ليست سبباً في قِلّة المال، كما جاء في الحديث(مَا نَقصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَة)، وقد بيَّن رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- فضل شكر الله على نعمه، وأثر الإنفاق في البركة وفي تنزّل الرّحمات، كما جاء في قوله – صلّى الله عليه وسلّم-: (بَيْنَمَا رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَانْتَهَى إِلَى الْحَرَّةِ، فَإِذَا هُوَ فِي أَذْنَابِ شِرَاجٍ، وَإِذَا شَرَاجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَبعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بمِسْحَاتِهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا اسْمُكَ ؟ قَالَ: فُلانٌ. بالاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لِمَ سَأَلْتَنِي عَنِ اسْمِي؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ ، يَقُولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ باسْمِكَ، فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَا إِذَا قُلْتَ هَذَا؛ فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهَا، فَأَتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثَهُ، وَأَرُدُّ ثُلُثَهُ).
ومن أشكال الصدقات والبرِّ في مثل هذه الأيام، مساعدة الفقراء والمعوزين واليتامى والأرامل، بشراء الملابس الشتوية لهم، ودفع الرسوم الجامعية لطلبة العلم منهم، وتوفير الدواء لمرضاهم، وإدخال السرور على قلوبهم، ورسم البسمة على وجوههم، بما أفاء الله علينا من النِّعم، لقوله – صلّى الله عليه وسلّم-: (اتَّقُوا النَّارَ وَلوْ بِشِقِّ تَمْرةٍ)، ومن المعلوم أنَّ منع الزّكاة سبب مباشر لغضب الله، فقد جاء في الحديث: (… وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا).
شكر الله سبحانه وتعالى على نعمة الغيث
انطلاقاً من قوله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ* لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}.
فإِنَّ الواجب علينا جميعاً أنْ ننظر إلى نِعَمِ الله علينا فنتأملها، ونشكر الله عليها، وأن نعرف أنّ وراء هذه النِّعم مُنْعم وخالق ورزَّاق هو الله عزّ وجلّ كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا* فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلا* وَحَدَائِقَ غُلْبًا*وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}.
لقد تحدّث القرآن الكريم عن فضيلة الشكر في آيات عديدة، كما ذكرت الأحاديث الشريفة
أنَّ رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – كان الأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة في الشكر لخالقه عزَّ وجل، فبالشكر تزداد النّعم، وبالجحود تزول النّعم وتنتهي، كما قال الشاعر:
إذا كنتَ في نعمةٍ فارْعَهَا فإنَّ المعاصي تُزيِلُ النّعم
وداومْ عليها بشـــكــرِ الإلهِ فـإنَّ الإلهَ سريــــعُ النّقـــم
نسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا الموسم موسم خير وبركة على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يُؤَلِّف بين قلوبهم، وأن ينشر المحبة والتراحم والتكافل فيما بينهم، إنه سميع قريب.
وصلَّّى الله على سيِّدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com