وراء الأحداث

متى نكتب تاريخ ثورتنا بموضوعية وإنصاف؟/بقلم/ عبد الحميد عبدوس

 

تعرض ويتعرض التاريخ الجزائري، عموما، وتاريخ ثورة التحرير المباركة خصوصا، للعديد من محاولات التشكيك والتزييف من قبل  المؤرخين والكتاب والساسة الفرنسيين الذين لم يستطيعوا تقبل فكرة تحرر الجزائر من قبضة الاستيطان الفرنسي، وقد يكون هذا الامر معقولا ومتوقعا، ولكن ما يعتبر مؤسفا ومسيئا لتضحيات المجاهدين والشهداء هو أن يصدر التشكيك والتلغيم للمعلومات التاريخية من طرف جزائريين يمثلون مصدر تدوين التاريخ الوطني.

تعد الشهادات الشخصية للفاعلين التاريخيين ومذكرات الساسة والقادة العسكريين المؤثرين في مسيرة الكفاح التحرري من أهم وسائل كتابة التاريخ الوطني المعاصر، ولكن نلاحظ مع الأسف ميل الكثير من تلك الشهادات التي أدلى بها بعض قادة الثورة ورموزها إلى تضخيم الذات، والسقوط في إغراء توجيه التاريخ حسب القناعات، أو المصالح الشخصية وتصفية الحسابات المؤجلة، أو طموحات الانفراد بالزعامة لأصحاب تلك الشهادات التاريخية.

آخر ما اطلعت عليه في هذا المجال، شهادة العقيد يوسف الخطيب قائد الولاية التاريخية الرابعة، الذي يعتبر مع العقيد الطاهر الزبيري قائد الولاية التاريخية الأولى، من بين آخر قادات الولايات التاريخية الأحياء ـ أطال الله في عمرهم، ومتعهم بموفور الصحة والعافية، وجزاهم كل خير عن جهادهم البطولي لتحرير الجزائر التي احتفلت بالذكرى الثالثة والستين لانطلاق ثورتها المجيدة في الفاتح نوفمبر 1954م. ففي شهادته المنشورة بجريدة “الشروق”  في الفاتح نوفمبر الجاري، سئل العقيد يوسف الخطيب عن المجاهد ياسف سعدي ـ الذي يعتبر هو كذلك من آخر الأحياء من أبطال معركة الجزائر التي تحولت إلى فيلم عالمي ـ هذا السؤال: ماذا عن ياسف سعدي؟

فأجاب: ياسف سعدي عليه كلام.. دعنا منه! (بمعنى أن ياسف سعدي في رأي العقيد يوسف (حسان) الخطيب ليس فوق مستوى الشبهات، أو أنه غير جدير بأن يذكر في سياق الحديث عن العمل الثوري في الجزائر العاصمة)!

وقبل شهادة العقيد يوسف الخطيب بحوالي أربع سنوات طالعت شهادة أدلى بها المجاهد “أحمد دالي” الذي كان ينشط في المنطقة الحرة (الجزائر العاصمة) من 1954م إلى 1957م تحت مسؤولية ياسف سعدي يتهم فيها هذا الاخير صراحة بأنه كان وراء استشهاد لوني أرزقي.

من المؤسف حقا أن تتعرض صورة المجاهد ياسف سعدي الذي مازال يقدم لتلاميذ المدارس في المناسبات الثورية كأسطورة حية من الكفاح التحرري الجزائري للانتقاص والطعن، ولكن الأسف قد يتحول إلى صدمة، وفي  نظر جميع الغيورين على مآثر الثورة التحريرية المجيدة ورموزها التاريخية المشعة، عندما يتحول ياسف سعدي بدوره إلى التشكيك والاستهانة بتضحيات رفاقه من الشهداء والشهيدات والمجاهدين وقادة الثورة، وتقديم صورة شائهة ومشوهة عنهم للأجيال التي تظل عرضة للغزو الثقافي وحرب التضليل والتسميم الفكري التي مازالت فرنسا تخوضها ضد الجزائر.

ففي أفريل 2014م فاجأ ياسف سعدي المتابعين، وصدم جزءا كبيرا من الرأي العام الوطني، وعرّض صورته كبطل من أبطال الثورة إلى الاهتزاز في أعين المعجبين به، وذلك بإقدامه على شن هجوم غير متوقع على البطل الشهيد العربي بن مهيدي، واتهمه بأنه لم يطلق رصاصة واحدة ضد الاستعمار الفرنسي، ثم عاد ليؤكد في تصريح صحفي آخر بأن الشهيد العربي بن مهيدي حاول الفرار من العاصمة أثناء الإضراب مع بقية أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ والتوجه إلى تونس، وأقسم باللّه أن الشهيد بن مهيدي لم يكن مطلوبا يوما ما من قِبل السلطات الاستعمارية، ولم يكن هو قائد الثورة بالعاصمة لأنه كان في لجنة التنسيق والتنفيذ التي كانت تسير الثورة في كل أنحاء الوطن، وأنه هو الذي استقبله عندما جاء أول مرة إلى القصبة.

وفي مطلع العام الماضي 2016م، عاد ياسف سعدي في اتصال هاتفي مع جريدة “الشروق” إلى تأكيد اتهام المجاهدة زهرة ظريف بيطاط نائبة رئيس الأمة سابقا، وبطلة العملية الفدائية التي نفذتها باسم جبهة وجيش التحرير الوطني في: 30 سبتمبر1956م ضد فرنسا الاستعمارية، والتي تمخضت عن تفجير حانة “ميلك بار” بوسط الجزائر العاصمة، حيث اتهمها بالعمالة للاستعمار الفرنسي، وأصرّ على أنها هي التي “باعت” الشهيد البطل علي عمار(علي لابوانت) ورفاقه، وقال إنه مستعد لتقديم وثائق استقدمها من فرنسا تؤكد صدق اتهاماته لزهرة ظريف، التي أقسم بأنها لم تدخل السجن ولم تعذب كما تقول هي.

وقد أكد الكثير من الباحثين والمؤرخين أن الوثائق التي يزعم ياسف سعدي أنها تدين زهرة ظريف بيطاط بالعمالة للاستعمار الفرنسي هي في الحقيقة وثائق زورتها مصالح المخابرات الفرنسية الاستعمارية، وسربتها عمدا لإثارة الشك والريبة حول شخصيات ثورية في إطار الحرب النفسية والثقافية التي ظلت فرنسها تشنها ضد ثورة الجزائر.

وقد وصلت الوقاحة وغواية قلب الحقائق بالحاقدين الفرنسيين على استقلال الجزائر، كرئيس الجمعية الفرنسية لضحايا الإرهاب، غيوم دونوا دو سان مارك، إلى حد أن شبه في 19 سبتمبر 2016م عملية “ميلك بار” الفدائية التي تدخل في إطار المقاومة الشرعية للاحتلال الفرنسي بالعمليات الإرهابية التي يمارسها تنظيم “داعش”.

ورغم أن  بعض تصريحات المجاهد ياسف سعدي تعتبر بلا شك غير منضبطة نضاليا وغير دقيقة تاريخيا، إلا أن هذا لا يبرر تعريضه إلى موجة من التشكيك والتجريح التي طالته في الأيام الأخيرة، حتى إن هناك من اتهمه بالخيانة والوشاية بالشهيد علي لابوانت، وأن ياسف سعدي قد تعرض إلى حكم الإعدام من قِبل الثورة في سنة 1955م، وهي أقوال فاقدة للدليل والمصداقية على كل حال. كما أن خليدة تومي وزيرة الثقافة السابقة تجاوزت حدود اللياقة والإنصاف بوصفها للمجاهد ياسف سعدي بـ “الحركي” عندما قالت: ”راحت الرجولة، ولم يبق إلا حركى يهاجمون نساء الجزائر ومفخرتها”.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com