اليــوم العالمــي للغــة العــربيـة
د. يوسف جمعة سلامة*/
تمرّ بنا في هذه الأيام ذكرى اليوم العالمي للغة العربية، هذه الذكرى التي تأتي في الثامن عشر من شهر ديسمبر في كل عام، وهو اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1973م باعتماد اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، وقد جاء في هذا القرار أنّ اللغة العربية لعبت دوراً مهماً في الحفاظ على حضارة الإنسان وتراثه الثقافي والعمل على نشرهما.
لقد شرَّف الله سبحانه وتعالى اللغة العربية بأن أنزل بها خاتم كتبه القرآن الكريم، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقوله سبحانه وتعالى أيضاً: {نَزَلَ بهِ الرُّوحُ الأَمِينُ* عَلَى قَلْبكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، فَخَلَّدَ ذكرها وعمّ أثرها، فقد حثَّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- على تَعَلُّمِهَا، فقال: (تَعَلَّمُوا اللغة العربية فإنّها من دينكم)، وذهب الإمام الشافعي – رحمه الله – إلى أنّ تعلُّم اللغة العربية أو معرفتها فرضٌ على كلّ مسلم كي يستطيع أن يؤدي فرائض دينه وخصوصًا الصلاة اليومية، ومن الجدير بالذكر أنّ اللغة العربية كانت تسير مع الدين جنبًا إلى جنب وهذا سِرُّ تعريب بلاد كثيرة، كما أنها وسعت علوم الحضارة الإسلامية وفنونها في زمن ازدهارها ولم تَضِقْ بعلم ولا مَتْنٍ.
عالمية اللغة العربية
من المعلوم أنّ اللغة العربية هي لغة عالمية، فهي اللغة الوحيدة للوحي الإلهي الباقي على ظهر الأرض! وقد استمدت عالميتها من عالمية الدعوة الإسلامية، حيث إِنّ الله سبحانه وتعالى أرسل رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم- للناس جميعاً، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}، وَتَعَلُّم اللغة العربية وتعميمها فرضُ عَيْنٍ على المدرسين العرب والمسلمين وعلى المجامع والمعاهد اللغوية التي خُصِّصَت لذلك؛ لأنّ القرآن لا يُسَمَّى قرآناً إلا بها، والصلاة لا تكون صلاة إلا بها؛ لذلك سارع المسلمون عبر تاريخهم إلى تَعَلُّمِهَا والتكلُّم بها والتأليف فيها والدِّفاع عنها، حتى حلّت مَحَلَّ الفارسية في العراق، والرّومية في الشام، والقبطية في مصر، وأصبحت في عصر بني العباس – وهو عصرها الذهبي – لغة الدين والأدب والعلم والسياسة والإدارة والحضارة والفكر والثقافة والتجارة والتشريع والفلسفة والمنطق والتصوف والفن.
مزايا اللغة العربية
تتميَّز لغتنا العربية بأنها راسخة كالجبال تضرب بجذورها في عمق التاريخ العربي والإنساني ، فهي أشرف لغة على وجه الأرض وكفاها فخراً أنها لغة القرآن الكريم ، فاللغة العربية هي المدخل لفهم كتاب الله وسنّة رسوله- صلّى الله عليه وسلّم- كما جاء في قوله سبحانه وتعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}(4 )، كما أنها نقلت – على مدى قرون عديدة – الثقافة العربية والإسلامية إلى شَتّى بقاع المعمورة؛ لِتُسْهم في نشر الدين الإسلامي الذي يُبَدِّد بنوره ظلام القلوب وَيُزيل بعلمه جهل العقول، فاللغة العربية مرتبطة بالدين ارتباط الروح بالجسد.
ومن الجدير بالذكر أنّ للّغة العربية خصوصية تتمتع بها دون سائر اللغات الأخرى تستمدها من كونها لغة القرآن الكريم، فالتاريخ لم يشهد لغة ذاع صيتها وَكَثُرَ النّاطقون بها، وسادت أمتها، بمثل ما شهدته اللغة العربية لغة القرآن الكريم الذي نزل ليكون هداية للعالمين، ورسم للإنسانية سبيل سعادتها وأخذ بيدها إلى مدارج الرُّقِيّ، وهذا الارتباط بين اللغة والعقيدة والهوية سِمَة تفرَّدت بها اللغة العربية، مما جعلها محلّ استهداف من الأعداء الذين يرمون إلى تقويض مكانتها في النفوس بإعمال مَعَاوِلهِم في هدمها؛ لكونها سياج هوية الأمة، فاللغة أساس وحدة الأمة ومستودع حضارتها ومرآة فكرها.
ومن المعلوم أنّ اللغة العربية هي التي حملت رسالة الإسلام وما انبثق عنها من حضارات وثقافات، وبها ارتبط العرب قديماً، وعن طريقها اتصلت الأجيال العربية ببعضها في عصور طويلة، وبها يتوَحَّدون اليوم وَيُؤلفون في هذا العالم رقعة من الأرض تتحدث بلسان واحد، وتصوغ أفكارها ومضامينها في لغة واحدة رغم بعد المسافات وتعدّد البلدان، واللغة العربية هي أداة الاتصال ونقطة الالتقاء بين العرب وشعوب كثيرة في هذه الأرض أخذت عن العرب جزءاً كبيراً من حضارتهم وثقافتهم، فقد استطاعت أن تكون لغة حضارة إنسانية واسعة اشتركت فيها أممٌ شَتَّى كان العرب نواتها الأساسية وقادتها، حيث اعتبروها جميعاً لغةً تحمل حضارتهم وثقافتهم.
واجبنا نحو اللغة العربية
إِنَّ من واجبنا أن نُلِمَّ بأصول لغتنا العربية وقواعدها، إذ إنها العامل الرئيس للوحدة والثقافة والحضارة العربية والإسلامية المشتركة، فضلاً عن أنها الرباط الذي يربط بين أبناء الأمة العربية والإسلامية؛ لذا فإنّ تعلُّم اللغة العربية يُعَدُ أمراً ضرورياً وَمُلِحًّا ؛ ذلك لأنها لغة القرآن، كما يجب علينا أن نتكلم اللغة العربية الفُصْحى، وأن نعمل على عدم مُزَاحمة اللهجة العامية للغة الفُصْحى، وأن نبذل مزيداً من الجهد في نشر اللغة العربية بين المسلمين غير الناطقين بها.
ومن الواجب علينا جمعياً ضرورة المحافظة على المكانة اللائقة للغة الضّاد في الاضطلاع بأدوارها الحيوية في المجتمع، وحتى تضطلع اللغة العربية الفصحى بدورها هذا، لابُدَّ أن تكون لغة التعليم الأساسية في جميع مراحله ولغة العلوم الحديثة، وكذلك لغة الخطاب السياسي والرسمي للدولة، كما يجب أن نَنْأَى بأنفسنا عن استخدام بعض المصطلحات الأجنبية التي تبوَّأَت مكان اللغة العربية، كما قال الشاعر/ حافظ إبراهيم:
وَسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغايةً وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلةٍوتَنْسِيقِ أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أتَوْا أهلَهُم بالمُعجِزاتِ تَفَنُّنًافيا ليتَكُمْ تأتونَ بالكلِمَاتِ
أَيهجُرنِي قومِي-عفا الله عنهمُإلى لغة ٍ لمْ تتّصل بِرواةِ
كما يجب علينا أيضاً العمل على نشر الوعي اللغوي والمعرفة بالعلوم اللغوية الأساسية والتثقيف اللغوي بين أبناء الأمة العربية والإسلامية؛ لِنُعيد للغة العربية مجدها وعزَّها وقوَّتها – التي كانت سائدة في أبهى عصورها -، ولتتصدر أولويات العلم والثقافة لدى أبنائها، كما قال الشاعر:
النَحْـــــوُ أَوْلــَـــى أَوّلاً أنْ يُعْلَمَــــــا إِذ الْكَـــــلامُ دُونَـــهُ لَنْ يُفْهَمَــــاَ
فالعربية تقبل كلّ جديد من المصطلحات وهذا يجعلها لغة للعلم والحضارة، وليست كما يظنّ البعض أنها تصطدم مع التطور التقني والتقدم التكنولوجي وتتعارض معه، فاللغة العربية الفصحى لها دور أساسي في مواجهة العولمة بمفهومها ومعناها، والتي تهدف إلى إذابة الثقافة والحضارة التي تُمَيِّز الأمة عن غيرها من الأمم والحضارات.
هذه هي لغتنا وهذه هي قيمتها العالمية، وهذا هو دورها الحضاري،كانت هي الوعاء الوحيد الذي حفظ تراث العالم القديم كلّه، لا وعاء غيره، ولا مصدر لذلك التراث سواه، وهذا فضل يعترف به العالم أجمع لا يُنكره أحد، ولله دَرّ القائل:
للهِ درُّ لسانِ الضَّادِ منزلةًفيها الهُدَى والنَّدَى والعلمُ مَاكَانَا
وفي الختام أقول: رحم الله أبا منصور الثعالبي، عالم اللغة في القرن الرابع الهجري عندما قال:
– مَنْ أحبّ الله أحبّ رسوله محمداً – صلّى الله عليه وسلّم-.
– ومن أحبّ الرسول العربي أحبّ العرب.
– ومن أحبّ العرب أحبّ العربية التي بها نزل أفضل الكتب.
– ومن أحبّ العربية عُني بها، وثابر عليها، وصرف هِمَّته إليها.
فنحن نشهدك يا ربّ: أننا نُحبّك ، ونحبّ نبيك، ونحبّ لغتنا العربية، لغة القرآن الكريم.
وصلّى الله على سيّدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com