التغاضي عن الصغائر من أسباب الوقــــوع في الكبائــــر

أ. محمد مكركب/
البحث في هذا الموضوع النفسي الدقيق والعميق، يخص سلبيات التغاضي والتغافل عن صغائر الأبناء حين يبدؤون الانحراف العبثي البريء، حيث يبدأ تغافل الوالدين في إهمال تربية الأولاد، يبدؤون بالسكوت أو اللوم الناقص عن ترك الواجبات، واللامبالاة في مخالفة الأوقات، والمثل الجزائري المشهور: {من لا يُنْهى عن إِبْرَةٍ، يصير مَسَبَّة وعِبْرة}
كلامنا في هذا المقال هو التخطيط والتأصيل لوقاية الشباب من الانحرافات الخطيرة، كيف تبدأ تلك الانحرافات صغيرة ثم تكبر وتتعاظم، ويكبر معها الخطر ويتفاقم، حتى يسقط الفتى أو الفتاة في العقوق، أو اللصوصية أو الإجرام، وكيف يغفل الوالدان عن أولادهم حتى يتركوا الصلاة والصيام ويسقطوا في الحرام. إنها مسائل وقضايا يجب أن تكون من أولويات الاهتمام.
ولايعقل أن تقول العائلات المحافظة: إن هذا الموضوع ليس من شغلنا ولا من اهتمامنا فهو خاص بالمنحرفين، يقال للجميع، لاتنسوا نصيحة النبي عليه الصلاة والسلام في حديث السفينة. ولابأس أن أذكركم به، فالآيات القرآنية لاتمل ولا يشبع من موعظتها وكنوزها، وكذلك الأحاديث النبوية، فهي الدرر الغالية من جوامع الكلم.عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبون على الذين في أعلاها فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذوننا، فقال الذين في أسفلها: فإنا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعا وإن تركوهم غرقوا جميعا] (الترمذي. كتاب الفتن.2173).
وقد علمتم أن حريق غابة أو مدينة مبدأه شرارة طائشة قد لايُهتم بها في البداية. يبدأ الانحراف من تصرف يظهر للوالدين أنه صغير لا أثر له، وأنه سلوك عابر بريء لايُهتم به، ولكن ذلك السلوك الصغير عند الغلام، الذي يُهمل ولا يلام، كَنَقْبٍ صغير في جدار سد كبير، أو كخرق مهمل في قاع السفينة. فماهي المبادئ الأولية للرعاية الإيمانية؟ كيف نحمي الأولاد من التقاليد الجاهلية، كتعودهم تعاطي التبغ، والشمة، والعري، والقزع، واتباع الموضات الْهِبِّيَة، كالسراويل الممزقة على أجساد شرائح غبية، والتي تدل على سفاهة الشاب المتلبس بها، وحماقة الراضين بهم، وتدل كذلك على إهمال الآباء وعجزهم عن تربية أولادهم، سفاهات بعضها فوق بعض. كيف نحمي الأولاد من التخلف الدراسي، وكيف نعمل بإذن الله تعالى على أن ينشأ أولادنا تنشئة سوية في شخصية رجولية قوية، إن الأولاد المهملين تغاضيا وتغافلا في صغرهم هم الذين يتعبون آباءهم والمجتمع جميعا في كبرهم.
فهذا الموضوع وقاية من ذلك الموقف المحزن الذي يجد فيه الوالدان أن ولدهما يتعاطى الحشيش، أو انتمى إلى عصابة السُّرَّاق، أو بلغ عشرين سنة وهو تارك للصلاة والصيام، أو هرب مع فتاة، أو خرج من الوطن إلى وجهة مجهولة، وغير ذلك من المواقف المحزنة والمآزق التي تقع فيها الأسرة بكاملها، حتى يُظْلَم فضاء الأسرة، وتتحول الآمال إلى يأس وأحزان. فترون أن الموضوع حساس، لأنه يتعلق بأكبر وأهم مشروع في حياة الإنسان وهو تربية الأولاد، فالنجاح في تربية الأولاد ليكونوا رجال المستقبل هو النجاح الحقيقي في مشروع المشاريع.
من أين تبدأ تربية الأولاد ولكن ليس هذا هو موضوعنا الآن، إنما فقط للتذكير المفيد، تبدأ التربية: من قبل الزواج باختيار الأصل والمنبت، ثم بالعفة والتعفف والاستقامة بالنسبة للزوجين الذين هما الأبوان فيما بعد، وإطعام الأولاد من الحلال الطيب، والحذر من السحت والخبائث في الأكل واللباس والمكسب، وتبدأ الرعاية الحقيقية المحتوية، والعناية الإيمانية الواعية، بعد انجاب الأولاد بالقدوة الحسنة الأدبية الراقية، منذ أن يدخل الطفل سن التقليد والمحاكاة، بداية من المراحل الأولى للطفولة، خصوصا بعد سن التمييز من السن السابعة من العمر.
بعض الصغائر عند الصغير التي تصير كبائر عند الكبير، 1 ـ اللعب في الطريق بلا توجيه ولا محاسبة ولا رعاية: ها هو يلعب قدام باب الدار، ثم يدخل، ولم يعلم مع من كان، ولا بم كان يلعب، ولا أسماء الذين لعب معهم، وبعد شهر أو أكثر ينتقل إلى طرف الشارع وإلى ثلة جديدة من الأصدقاء، ويعود إلى المنزل ولا يسأل، ولا يعلم مع من لعب، وبعد أن يشب قليلا ينتقل إلى ساحة للعب في طرف المدينة أو القرية، وذهب إلى الدكان واشترى مأكولات، ثم يترك الواجبات الدراسية قليلا قليلا، ويسهر خارج البيت، ولكن على حد قوله: كان هنا مع أصحابه، ولا يسأله أبوه ولا أمه عن أصحابه، ولا ما ذا فعل مدة نصف ساعة، أو ربما ساعة وهو يلعب خارج الدار ولا يعلم الوالدان أين ولا ماذا كان يفعل، وهو في هذه الخرجات يرى من أحدهم ممارسة التدخين وقد يتعلم منه، ومن آخر يسمع السب والكلام القبيح وربما يقلده. وهكذا يَتَدَرَّكُ الطفل ثم الغلام نحو هاوية الانحراف، والأبوان في غفوة، وربما في غفلة، ولا يستيقظون إلا والولد رسب في الدراسة وسقط في الميوعة والتشرد والعقوق، ثم لاينفع الندم، ويصعب العلاج.
قال محاوري: هل تقع المسؤولية على مؤسسات الأمن وكل مؤسسات المجتمع من المدرسة والمسجد والبلدية؟ أم أن المسؤولية على الوالدين فقط؟ قلت: المسؤولية على الوالدين بالدرجة الأولى وهذا مما لاشك فيه، والمجمع عليه، خاصة مع التقصير الكبير في دور المؤسسات الأخرى. ولكن المدرسة والبلدية ومؤسسة الأمن لا يعفون من تلك المسؤولية، وعندما نرتب درجات المسؤولية تكون كالآتي: مسؤولية الوالدين، ثم المدرسة، أي وزارة التربية، من الابتدائي إلى الجامعي، ثم مؤسسة الأمن بكل فروعها وتخصصاتها، ثم البلدية التي تسأل عن الجيل، أمام التاريخ والوطن والأمة. 2 ـ من الصغائر التي يتغاضى عنها بعض الآباء أو يتغافلون، السماح لأولادهم باستعمال شاشات الهواتف العنكبوتية مع الفيديوهات، وشبكات التواصل، مع كثير من المناظر الشيطانية التي يروجها شياطين الإنس من الذين انعدمت في ضمائرهم المروءة، فيترك الطفل في البداية يتلهى على الألعاب المسلية الصبيانية، ثم ينتقل إلى اللعاب التي تخدر العقول بالإدمان عليها، ثم يترك أكله ودراسته، إلى أن يسقط في المواقع الإباحية الشيطانية. لايليق بالآباء ترك أولادهم مع الصور الهاتفية، ولا مع الانترنيت، ولا السهر وحدهم مع هذه الوسائل. 3 ـ من الصغائر التي تتحول إلى الكبائر، التغاضي عن الولد بعد السن السابعة عندما يترك وقتا من الصلاة، يجب على الآباء العمل بالحديث.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها، وهم أبناء عشر وفرقوا بينهم في المضاجع] (أبو داود. كتاب الصلاة.495) بعض الآباء يتغافلون عن العمل بهذا الحديث، ويحسبون ترك العمل به هينا، وهو أمر عظيم. فالنبي عليه الصلاة والسلام، يأمرنا بأن نأمر أولادنا ذكورا وإناثا بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، وفرض علينا أن نلزمهم بالصلاة في كل أوقاتها بعد السن العاشرة. سيتبع هذا المقال إن شاء الله تعالى ببيان خطورة التغاضي عن التوجيه المبكر، عند بداية مبادرة الولد اتخاذ القرار دون استشارة الوالدين، وعاقبة هذا التغاضي انحراف كبير.