الصــــدى العـــربــي الإفـــريـقــي والعـــالـمــي لـمظـــاهـرات 11 ديسمــبــر 1960 يحــقـــق: انتصــــارا دبلوماسيــــا للجزائــر وللكفـــاح التحــرري عبـر العالـــم
تحيي الجزائر الذكرى الستين لمنعرج حاسم وهام من منعرجات حرب التحرير، إنها مظاهرات ديسمبر 1960م، كانت مظاهرات مصيرية خرجت فيها أيضا النساء والأطفال بكل جرأة حاملين العلم الوطني، رافعين شعارات ظهرت لأول مرة أثبت من خلالها أن الجزائر جزائرية مسلمة. تفاصيل تاريخية مهمة أعادنا إليها عدد من الأساتذة والباحثين حول تاريخ الجزائر، في ملف أعددناه حول هذه الملحمة لجريدة البصائر الجزائرية، وقد حدثونا عن خلفية هذه المظاهرات وكيف كان الرد العسكري الفرنسي ضد هذا الشعب الأعزل الذي خرج في مسيرات سلمية يطالب بحقه المشروع في تقرير المصير، كما تطرق الباحثون للحديث عن الآفاق الجديدة للدبلوماسية الجزائرية بعد الصدى الذي حققته عربيا إفريقيا وعالميا، وعن الدور للإعلام الدولي الذي قام بإيصال أنباء ديسمبر 1960م إلى العالم حيث كشف للرأي العام أن الشعب الجزائري يرفض رفضا باتا مشروع ديغول وسياسة فرنسا.
إعــداد : فاطمــة طاهـــي |
الدكتور مولود قرين: مظاهرات 11 ديسمبر.. الاستفتاء الجماهيري المبكر والطريق إلى النصر
ذكر الدكتور مولود قرين، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة المدية، أن الإستراتيجية التي تبنتها جهة التحرير الوطني منذ 1954م سواء على المستوى الداخلي أو على المستوى الخارجي قد جعلتها بحق أنموذجاً تحتذي به كل الثورات ضد الأنظمة الإمبريالية، وأن من بين ما راهنت عليه الجبهة منذ البداية هي التعبئة الشعبية عملاً بمقولة العربي بن مهيدي “أرموا بالثورة إلى الشارع يحتضنها الشعب”، مضيفا أن المراهنة على القواعد الشعبية تعبّر عن قمة النضج السياسي والعسكري لمهندسي الثورة ومنفذيها، كما اعتبر الدكتور أن نظرة الكثير من فلاسفة حركات التحرر للثورة والشعب كانت بمثابة “السمكة والماء”، مشيرا في هذا الصدد إلى “ماوتسي تونغ” الذي اعتبر أنه مثلما لا تستطيع السمكة أن تعيش خارج الماء، لا يمكن كذلك للثورة أن تنجح وتحقق أهدافها بمعزل عن الشعب، ويضيف الدكتور مولود قرين أن الشعب الجزائري بكل شرائحه ومكوناته كان دوماً في الموعد منذ الفاتح من نوفمبر 1954م إلى غاية 5جويلية 1962م، وأن أبرز ما يعبر عن حقيقة التضامن بين الشعب وجبهة التحرير الوطني هي “مظاهرات 11 ديسمبر 1960م، التي كانت حسب شهادات صانعيها المنعرج الحاسم في تاريخ الثورة الجزائرية نحو تحقيق النصر أو “ديان بيان فو” الجزائرية، ويقول الدكتور: لذلك لا يمكن أن ننظر إلى هذه المحطة من تاريخ الثورة نظرة سطحية ونعتبرها كما وصفها وزير الداخلية في تلك الفترة “بأنها حوادث عفوية” معزولة، ولكن في حقيقة الأمر أن هذه المظاهرات كانت نتيجة حتمية لمجموعة من الظروف الداخلية والخارجية، جعلت “المجلس الوطني للثورة” يفكر بجدية في ضرورة تحريك القواعد الشعبية وخلق جبهة ثالثة (جبهة الشعب) لتكون قادرة على إحباط مخططات ديغول ومناوراته السياسية والعسكرية، مشيرا أنه لذلك عين المجلس الوطني للثورة لجنة تكونت من “عبد الحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال، عبد الحميد مهري وكريم بلقاسم”، وقد أسندت لهم مهمة التحضير للمظاهرة في شهر نوفمبر 1960م ولكنها أجلت نتيجة بعض التطورات السياسية، والتي تمثلت في التصريحات التي أدلى بها ديغول خلال نفس الشهر أمام مجلس الوزراء، والذي أكد من خلاله تنظيم السلطات في الجزائر وانتظار تطبيق حق تقرير المصير.
أما عن ظروف المظاهرات يضيف الدكتور مولود قرين فأنه يمكن حصرها فيما أفرزته استراتيجية ديغول الذي حاول بكل ما أوتي من قوة للقضاء على الثورة الجزائرية، فاستنجد بالجنرال “شال” الذي أعطى له صلاحيات مطلقة، فقسم هذا الأخير التراب الجزائري إلى مقاطعات عسكرية وإخضاع كل منطقة لعمليات عسكرية تمشيطية واسعة النطاق، ويضيف المتحدث أن شال كان يقول: لا يمكن القضاء على الثورة إلا بالقضاء على الشعب، فكان في حربه يأتي على الأخضر واليابس. أما على المستوى السياسي، فالجبهة عقدت مفاوضات مع ديغول وهي مفاوضات “مولان” 25- 29 جوان 1960م، غير أنها فشلت، مما جعل الرأي العام العالمي، خاصة العربي منه يضغط ديبلوماسا ويطالب بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، وكذلك الدول الإفريقية التي اجتمعت في “مونروفيا” في أوت 1960م، وأكدت على ضرورة دعم القضية الجزائرية.
في نفس السياق، أشار الدكتور إلى أن المظاهرات انطلقت شرارتها الأولى “بعين تموشنت” يوم 9 ديسمبر 1960م على إثر زيارة ديغول الذي جاء مبشرا بمشروعه “الجزائر جزائرية” أي تكوين دولة جزائرية تجمع السكان المسلمين والأوروبيين على حد سواء، غير أن جموع الجزائريين قابلوه برفض قاطع في مظاهرات حاشدة رفعوا فيها أعلام الجزائر وردّدوا “تحيا الجزائر عربية مسلمة، الله أكبر، تحيا جبهة التحرير الوطني، تسقط الجزائر جزائرية وتسقط الجزائر فرنسية”، كما قام الأطفال حسب المتحدث بحرق الأعلام الفرنسية واستبدالها بأعلام الجزائر، كما استمرت المواجهات بين الجزائريين والشرطة الفرنسية يوماً كاملا، ثم انتقلت المظاهرات إلى تلمسان ووهران والأصنام ثم باقي مناطق الجزائر، ويضيف الباحث مولود قرين أن الزخم الكبير للمظاهرات كان في مدينة الجزائر يوم 11 ديسمبر 1960م، حيث كانت الانطلاقة من حي بلكور لتمتد إلى باقي أحياء المدينة بشعارات الجزائريين: “الله أكبر” تحيا”FLN” وتحت زغاريد النسوة، كما علت الأعلام الجزائرية كل الأحياء، كما تحدث الدكتور عن إجرامية المحتل، حيث صدر الجنرال “غونمبو” Gambault أمرا للمظليين لإطلاق النار على المتظاهرين مما أدى إلى مجزرة حقيقية، تبعت بحملة اعتقالات واسعة، كما قامت الشرطة الفرنسية بإخراج الجرحى من المستشفيات، وأطلقوا عليهم النار، إذ كانوا لا يستثنون أحدا، مشيرا إلى استشهاد الطفل “فريد مغراوي” الذي لا يتجاوز سنه 10 سنوات.
كما أضاف المتحدث، أنه رغم بشاعة الرّد الفرنسي، إلا أن المظاهرات أعطت دفعاً قوياً للديبلوماسية الجزائرية، وهذا ما عبّر عنه النداء الذي وجهه رئيس الحكومة الجزائرية “فرحات عبّاس” يوم 16 ديسمبر 1960م، حينما قال: “إننا نمرّ اليوم بمرحلة حاسمة من تاريخنا، ونجتاز امتحانات عظمى، وأن المعركة التي خضتموها قد كان لها أبلغ الصدى وأعمقه، وقد سجّلها العالم كله باعتبارها انتصارا ساطعاً لكفاحنا التحرري والوطني، ويشير الدكتور مولود قرين إلى أن هذه المظاهرات عبّرت عن عمق الوعي الجماهيري والتفافه بثورته، وأن هذا ما أدركه ديغول وعبّر عليه بقوله: “إن ما رأيته بأم عيني خلال خمسة أيام، وسمعته بأذني، وما تغلغل في أعماق فكري، ترك لدي انطباعاً واضحاً عن حقيقة الوضع في الجزائر عندها سيمزق التصويت على تقرير المصير آخر ستار قاتم، إن الحرب أصبحت شبه منتهية”، وقال الدكتور محمد قرين أنه لعل أهم انتصار حققته الجبهة هو إدراج القضية الجزائرية ضمن أشغال الدورة 15 لهيئة الأمم المتحدة، فصدى المظاهرات جعلها تصدر لائحة تنص على حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، وقد تحصلت هذه اللائحة على أغلبية الأعضاء 68 صوتاً ضد 27 وامتناع 8 أصوات، مضيفا أيضا أن هذه المظاهرات ساهمت في حشد الرأي العام العربي والإفريقي والعالمي لصالح القضية الجزائرية ويظهر ذلك من خلال رسالة جمال عبد الناصر التي جاء فيها: “إن الجمهورية العربية المتحدة تساند بكل الوسائل كفاح الشعب الجزائري في سبيل الحرية والاستقلال”، إضافة إلى رسالة الملك المغربي “محمد الخامس” لفرحات عباس التي عبّر فيها أن استقلال المغرب لن يتم ما لم تحصل الجزائر على استقلالها”.
ويضيف الدكتور أن في 19 فيفري توجه السيد “موديبو كينا” رئيس جمهورية مالي برسالة إلى فرحات عباس يعلن فيها رسميا اعتراف دولته بالحكومة الجزائرية المؤقتة. أما نجيريا فقامت بقطع علاقاتها مع فرنسا وطرد السفير الفرنسي وأعوانه، كما يواصل الدكتور حديثه عن الصدى العالمي لهذه المظاهرات، اذ قامت مظاهرات مساندة للشعب الجزائري في كل من الهند وتركيا، وأصدرت الصين الشعبية بلاغاً شديد اللهجة يدين الجرائم الفرنسية، كما أعرب “خرتشوف” رئيس الاتحاد السوفييتي عن تأييده للقضية الجزائرية، كما قام رئيس النقابات الأمريكية بإرسال رسالة إلى حكومة بلاده يحذر فيها من اسمراريه مساعدة فرنسا عسكريا.
وفي نفس السياق، قال الباحث في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر: بأنه لا غرو إن قلنا بأن مظاهرات 11 ديسمبر كانت استفتاء جماهريا مبكرا عبرت عن تلاحم الشعب الجزائري بكل أطيافه بثورته، وجعلت مشاريع ديغول ومناوراته في مهب الريح، كما أعطت دفعاً قوياً للديبلوماسية الجزائرية، لذلك ما كان على ديغول إلى الرضوخ لمطالب الجبهة والجلوس على طاولة المفاوضات بشكل جدي.
***
الأستاذ الدكتور رضوان شافو: مظاهرات ديسمبر 1960 إرادة في التحرر ورغبة في النصر والاستقلال
أضاف الدكتور رضوان شافو، أستاذ بجامعة الوادي، أن أسلوب المظاهرات الشعبية في حدِّ ذاته يعتبر نقلة نوعية في وسائل الكفاح الثوري ضد الاستعمار الفرنسي، لكونه الطريقة الوحيدة الناجعة للصمود في وجه الاستفزازات الاستعمارية العسكرية والمدنية، وذلك بالتكتل والتضامن والتظافر بين الشعب الجزائري وثورته، التي لطالما حاولت السلطة الفرنسية تمزيق وحدة الصف بينهما، ومن هذا المنطلق أشار الدكتور رضوان شافو أن مظاهرات 11 ديسمبر 1960 هي استمرار لتك المظاهرات السابقة الداعمة للثورة الجزائرية، إذ اعتبرها الكثير من المجاهدين مظاهرات خالدة في تاريخ الثورة الجزائرية وخالدة بما أظهره الشعب من طاقة ثورية جبارة، وبما أبداه من ضروب الملاحم والبطولات، وخالدة بما حطمته من خرافات فرنسية، وبما قوضته من مخططات استعمارية، وحسب الدكتور أنه على الرغم من أن الشعب الجزائري كان يدرك مدى خطورة الرد الفرنسي لقمع المظاهرات الشعبية بمختلف أسلاكه الأمنية والعسكرية، إلا أن الإرادة في التحرر والتخلص من الاستعمار، والرغبة في تحقيق النصر والاستقلال الوطني جعلته يقف صامدا أمام القمع البوليسي الهمجي بكل فخر واعتزاز، صانعا منها صورة حضارية وإنسانية أمام الرأي العام العالمي، وقاهرا لأسطورة الرجل الأوروبي الذي لا يقهر، ومؤكدا في ذات الوقت على أن الجزائر جزائرية ولا يمكن أن تكون فرنسية كما قال الشيخ عبد الحميد بن باديس.
كما أضاف الدكتور أنه في اليوم الثاني من المظاهرات الشعبية عقد فرحات عباس ندوة صحفيه أمام مختلف وسائل الإعلام الأجنبية بهدف كشف المغالطات والإيداعات الفرنسية المضللة حول ما يحدث في الجزائر من قمع ضد المتظاهرين، ويبدوا أنه من بين الآفاق الدبلوماسية الجزائرية بعد هذه المظاهرات هو تحرك القضية الجزائرية في المحافل الدولية وعلى الخصوص في الأمم المتحدة، وذلك لكون أن مظاهرات11 ديسمبر 1960 تزامنت مع مناقشة الأمم المتحدة للقضية الجزائرية في 20 ديسمبر 1960، هذا بالإضافة الى زيادة الدعم والتأييد الدولي للثورة الجزائرية.
وحول الدور الاعلامي، أشار نفس المتحدث، إلى أنه من النتائج الإيجابية لهذه المظاهرات هو الحضور الإعلامي الأجنبي المكثف، الذي أعطى الصفة الدولية للمظاهرات، وكشف عن مدى بشاعة السياسة الاستعمارية في الجزائر، وأضعفها دبلوماسيا وكشف عن وجهها الحقيقي المتعطش للسفك الدماء، نتيجة للجرائم المرتكبة في حق الجزائريين، ودافع بكل قوة وجرأة عن عدالة القضية الجزائرية، مضيفا أن مختلف المحافل الدولية والمنظمات الحقوقية اتخذت مما نشرته مختلف وسائل الإعلام الأجنبية حول هذه المظاهرات سندا قوياً في تأييدها للقضية الجزائرية، وذلك من أجل تقرير مصير الشعب الجزائري، بل وصل الأمر إلى ظهور جمعيات ومنظمات فرنسية مناهضة للإستعمار الفرنسي في الجزائر، ومطالبة في ذات الوقت بإنهاء الحرب واستقلال الجزائر، لأن الحرب الاستعمارية في الجزائر أنهكت المجتمع الفرنسي اقتصاديا واجتماعيا.
كما ذكر الدكتور بأن قمع السلطة الفرنسية للمظاهرات أتى بنتائج عكسية دولية، حيث تعاطفت العديد من الدول العربية والأوروبية مع الشعب الجزائري وقدمت الدعم اللامشروط لهم، من خلال قيام عديد الأحزاب السياسية والتكتلات النقابية والطلابية بمسيرات شعبية منددة للإجرام الفرنسي في الجزائر، بل وصل الأمر الى أن احدى الصحف الامريكية وصفت هذه المظاهرات “بثورة القرن العشرين”، كما خصصت العديد من الصحف الاسبانية والبريطانية والسويسرية المحايدة ملفا خاصا حول الجرائم الفرنسية المرتكبة ضد الجزائريين في هذه المظاهرات.
***
الدكتور عمر جبري: مظاهرات ديسمبر 1960م بين فشل سياسة ديغول وانتصار ارادة الشعب الجزائري في تقرير مصيره
ومن جهته تحدث الدكتور عمر جبري، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة سطيف 2، بأن مظاهرات ديسمبر 1960م هي من بين أبرز وسائل الكفاح الثورية التي لجأ اليها الشعب الجزائري وجبهته كحل سياسي وسلمي مخطط له من طرف قيادة جبهة تحرير الوطني، كما اعتبر الدكتور أن هذه المظاهرات لم تكن عفوية أو ارتجالية ولا مصطنعة بل كانت تعبيرا حقيقيا عن رفض سياسة ديغول وفرنسا الاستعمارية في الجزائر.
كما ذكر الدكتور عمر جبري، أن مظاهرات ديسمبر 1960م دامت أسبوعا كاملا، إذ خرج الجزائريون في مظاهرات مصيرية منذ يوم 09 إلى غاية 16 ديسمبر 1960م، وذلك للتعبير عن إرادتهم في الإستقلال الكامل والشامل، مشيرا في هذا الصدد أن بداية المظاهرات كانت في يوم وصول الجنرال ديغول إلى مدينة عين تموشنت، فلبى المتظاهرون والجماهير الشعبية نداء رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة فرحات عباس، الذي أمر بإيقاف المظاهرات نظرا للتجاوزات الخطيرة للقمع الكولونيالي الاستعماري ضد الأبرياء العزل من أطفال ومراهقين وشباب ونساء، خرجوا متحمسين في هذه المظاهرات التي أصبحت راسخة في الذاكرة الجماعية للشعب الجزائري بتاريخ 11 ديسمبر 1960م.
ويضيف الدكتور عمر جبري، أن الجنرال ديغول عُرف عند الفرنسيين بمنقذ فرنسا في الحرب العالمية الأولى، مما جعله حسبهم يفهم معنى إرادة الشعب في الحرية والاستقلال، ولكن بعد مجيئه للحكم في الجزائر عام 1958م وانتخابه رئيسا للجمهورية الخامسة غير موقفه تماما من الثورة التحريرية وجبهة التحرير الوطني، ما جعله يتبع حسب تصريحاته سياسة المراحل في مواجهة الثورة، وذلك من خلال بدايته بمرحلة الجزائر الفرنسية ثم انتقاله إلى تطبيق مرحلة التردد ثم إلى مرحلة تقرير المصير الجزائر في 16 سبتمبر 1959م، ليتجه بعدها إلى مرحلة الجزائر جزائرية دون الاعتراف بجبهة التحرير الوطني والحكومة المؤقتة كممثل وحيد وشرعي للشعب الجزائري مع اشتراطه لوقف القتال قبل التفاوض، أين تلفظ ديغول لأول مرة بكلمة الجمهورية الجزائرية في يوم 04 نوفمبر 1960م، مما دفع العديد من الضباط في الجيش الفرنسي لمحاولة الانقلاب ضده واغتياله فيما بعد، ليصل أخيرا إلى مرحلة المفاوضات الجدية مع الجبهة.
في نفس السياق أشار الباحث في تاريخ الجزائر، إلى أن الجنرال ديغول قرر القيام بحملة دعائية في الجزائر لشرح مشروعه للمستوطنين الأوروبيين في الجزائر أساسا، وذلك في إطار تحضيره لمشروع الاستفتاء الشعبي الذي قرر إجراءه في يوم 08 جانفي 1961م، الذي رفضته الجزائريون أصلا، وحسب الدكتور، هذا ما دفع بالغلاة المستوطنين من الأقدام السوداء إلى الخروج في مظاهرات ليعبروا لديغول عن رفضهم لسياسته ومن أجل إرغامه على التراجع، كما ذكر الدكتور عمر جبري أنه تم أيضا توزيع العديد من المنشورات التي تحمل توقيع جبهة الجزائر فرنسية F.A.F))، والتي تنص في مضمونها على غلق المحلات التجارية ومنع مرور السيارات، حيث خرج حوالي 05 ألاف أوروبي في مدينة عين تموشنت رافعين شعارات تحمل عنوان الجزائر فرنسية، أما الأجهزة الاستعمارية الممثلة في الفرق الإدارية الخاصة S.A.S)) فقد قامت بدعاية مضادة بشعار الجزائر جزائرية ويحيا ديغول، وكل هذا حسب المتحدث، من أجل تضليل الإعلام الدولي، ويضيف أن هذه المرحلة هي آخر مراحل الجنرال ديغول الذي أصبح ينادي باتحاد كامل لسكان الجزائر من أجل بناء جزائر جديدة مع فرنسا، مع الوفاق بين كامل المجموعات السكانية.
كما اعتبر الأستاذ عمر جبري أن كل هذا دفع بالآلاف من الجزائريين المتحمسين والمتعطشين للاستقلال إلى تنظيم مظاهرات معاكسة تماما في كل المدن الجزائرية التي زارها الجنرال ديغول، بداية من عين تموشنت غربا إلى عنابة شرقا ومن البليدة إلى قسنطينة مرروا بالعديد من ولايات الوطن كالجزائر وسطيف والأصنام، لتنطلق المظاهرات في مدينة عين تموشنت يوم 09 ديسمبر 1960م بزيارة ديغول إليها بسبب التمركز الكولونيالي الكبير في ولايات الغرب الجزائري، مما أدى بالجماهير الشعبية تتجاوب مع نداء الجبهة والحكومة المؤقتة ليلتف الشعب الجزائري حول قضيته الوطنية، أين رفع المتظاهرون العلم الوطني. من جهة أخرى، قوبلت هذه المظاهرات السلمية بإجراءات عسكرية قمعية.
كما تحدث الدكتور عمر جبري، عن التغطية الاعلامية لهذه المظاهرات والجرائم المرتكبة في الجرائد الفرنسية في الجزائر وهي نفسها الجرائد التي غطت الزيارات والمظاهرات والأحداث. مشيرا إلى بعض الجرائد منها:
وقال الباحث أنه أمام بشاعة قمع هذه المظاهرات الدموية من طرف الآلة الاستعمارية الفرنسية للأطفال والنساء المتظاهرين، أمر رئيس الحكومة المؤقتة فرحات عباس بضرورة إيقاف هذه المظاهرات يوم 16 ديسمبر 1960م.
واعتبر نفس المتحدث أن هذه المظاهرات الشعبية أدت إلى نتائج داخلية وخارجية سياسية ودبلوماسية كنقل صدى الثورة التحريرية والقضية الجزائرية للعالم، وذكر أن العديد من البرقيات ورسائل التضامن والتأييد أرسلت إلى رئيس الحكومة المؤقتة فرحات عباس، وهذا من رؤساء دول افريقية وآسيوية وأوروبية وعربية، كما تزامنت هذه المظاهرات مع الإحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان في الذكرى الثانية عشر له بالعاصمة الفرنسية باريس، وأيضا مع انعقاد دورة هيئة الأمم المتحدة في شهر ديسمبر 1960م والتي اعترفت من خلال اللائحة الإفريقية والأسيوية بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره والاستقلال التام، ويشير الدكتور في حديثه أن هذا ما دفع بالجنرال ديغول بعد شهر من هذه المظاهرات يأمر صديقه جورج بومبيدو ببداية الاتصالات السرية مع الوفد الجزائري وممثليه، لتكون بداية لانطلاق المفاوضات بين الطرفين، التي عجلت بتوقيع اتفاقية أيفيان في 18 مارس 1962م ووقف إطلاق النار وانتصار الشعب الجزائري على أكبر دولة استعمارية في إفريقيا وآسيا.
***
الدكتور عبد الحميد دليوح: مظاهرات ديسمبر انتصار لـ “الجزائر مسلمة” وانهزام لمشروع ديغول “الجزائر جزائرية”
ذكر الدكتور عبد الحميد دليوح، أستاذ محاضر للتاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الجزائر 2، أن الضغط الدبلوماسي الكبير الذي كان يواجهه ديغول من قبل كل دول العالم من أجل القضية الجزائرية، بعد فشل مشروعه العسكري الذي كلف به صديقه الجنرال شال وفشل مشاريعه الاجتماعية كمشروع قسنطينة ومشروع سلم الشجعان، إضافة إلى ضغط الشارع الفرنسي الذي خرج رافعا شعارات رافضة بإرسال أبنائهم ليكونوا ضحايا للحرب في الجزائر، ناهيك عن الخسائر الكبيرة للأرواح وللاقتصاد، وأيضا بيان المثقفين الفرنسيين الذين دعوا إلى ضرورة حل الأزمة في الجزائر حماية لفرنسا وتضامنا مع الشعب الجزائري، وبعد تسجيل القضية الجزائرية في الكتلة الأفرواسيوية، كلها أدت بديغول إلى أن يسارع بزيارة الجزائر وذلك بمرافقة صحفيين لتضليل الرأي الدولي بمشهد دعائي، ليطرح مشروعه الجديد “الجزائر جزائرية” إذ أراد من خلاله أن يستهدف بإيعاز كل القوى السياسية الفرنسية آنذاك بحملة دعائية تنتهي باستفتاء حول تقرير المصير، وكل هذا حسب الدكتور من أجل إقناع المجتمع الدولي بأن ديغول يسير إلى حلحلة الأمور في الجزائر، لينقلب عليه حتى المعمرون الذين رفضوا سياسته ورفعوا شعارات “الجزائر فرنسية” فتدخلت جبهة التحرير الوطني بشعارات “الجزائر مسلمة”.
كما أشار الدكتور عبد الحميد دليوح، إلى دور النساء البارز في مظاهرات ديسمبر 1960، إذ تصدرن الصفوف الأولى للمظاهرات، كما قضين ليالي بيضاء من أجل خياطة الأعلام الوطنية، كما تحدث أيضا عن دور الأطفال مشيرا إلى الطفل الشهيد فريد مغراوي الذي حمل العلم الوطني، وحسب الدكتور أراد أحد الجنود الفرنسيين انتزاع العلم منه، وبكل جرأة عاد إليه الطفل ليأخذ العلم بقوة منه ثم يفر، فسقط الطفل شهيدا بعدما أطلق الجندي الرصاص عليه.
وعن دور الإعلام ذكر الدكتور أن مظاهرات ديسمبر 1960 كانت أكثر الأحداث التي حظيت بتغطيات إعلامية وطنية ودولية وعالمية، مشيرا إلى الصحفي الأمريكي الذي قال عنها:” كل الشباب الجزائريين كانوا ناطقين باسم الثورة الجزائرية”، إضافة إلى تفاجئ العالم بالعلم الوطني الذي ظهر في كل الشوارع وعلى النوافذ بعد أن كان يظهر فقط في الجبال وحسب الدكتور “كان العلم الوطني سيد المعركة”، فكانت مظاهرات ديسمبر 1960 حسب الباحث في تاريخ الحديث والمعاصر انتصارا مستحقا لجبهة التحرير الوطني إذ أن أغلب المشاركين في دول الأفرواسيوية أجمعوا على حق الشعب الجزائري في تقرير المصير.
***
الدكتور عبد القادر عزام عوادي مظاهرات ديسمبر 1960 أثبتت للعالم أن جبهة التحرير الوطني هي الممثل الوحيد للشعب الجزائري
ذكر الدكتور عبد القادر عزام عوادي، أستاذ بجامعة الوادي،أن مظاهرات ديسمبر 1960 جاءت مع عودة الجنرال ديغول إلى الحكم سنة 1958، هذا الأخير الذي قام بسياسات كانت هدفها تفريق الشعب الجزائري واستبعاده عن جبهة التحرير الوطني وعن جيش التحرير الوطني، مضيفا أن مظاهرات ديسمبر 1960 كانت تعبيرا واضحا للسلطات الاستعمارية أن الشعب الجزائري يناضل من أجل الحرية والاستقلال تحت لواء جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني.
وأشار الدكتور إلى أن الشرارة الأولى لمظاهرات ديسمبر 1960 قد انطلقت يوم 09 ديسمبر منذ زيارة ديغول إلى بعض مناطق الغرب الجزائر بدءا بعين تموشنت، حيث عارض الجزائريون وحتى المعمرون والمستوطنون سياسته “الجزائر الجزائرية” التي كان يقصد بها حسب المتحدث: الجزائر للمعمرين والمستوطنين وللحركى والخونة، ليخرج المعمرون بشعارات “الجزائر فرنسية” مما أدى إلى اشتباكات بين الجزائريين والمستوطنين والفرنسيين، ليكون الرد العسكري الفرنسي عنيفا ضد الجزائريين ليسقطوا شهداء في وهران وفي العاصمة وغيرها من المدن.
وفي نفس السياق يضيف الدكتور عبد القادر عزام عوادي، أن يوم 11 ديسمبر هي المظاهرات التي خرجت بأمر من جبهة التحرير الوطني، منظمة في مختلف الولايات ومؤطرة من طرف قاداتها، ويضيف الباحث في تاريخ الجزائر أن بعد أحداث ديسمبر 1960 أدرك المستعمر الفرنسي بأن جبهة التحرير الوطني هي المسير الوحيد للشعب الجزائري، مما أدى ببعض الشخصيات السويسرية أن تتدخل كوسيط، وحسب المتحدث اتصلوا بالمناضل الطيب بولحروف موفد جبهة التحرير الوطني في روما، ليتصل هو بدوره بقيادة جبهة التحرير الوطني، فتعاد القضية الجزائرية إلى طاولة المفاوضات بين جبهة التحرير الوطني وبين فرنسا.
كما تحدث الدكتور عبد القادر عزام عوادي عن الندورة الصحفية التي قام بها رئيس الحكومة المؤقتة فرحات عباس يوم 16 ديسمبر 1960، حيث تحدث عن المظاهرات ومساراتها، كما أمر الشعب الجزائري من خلال هذه الندوة الصحفية بإيقاف وإنهاء المظاهرات، ليتيقن بعد ذلك المستعمر الفرنسي والإعلام الغربي العالمي الذي لعب دورا هاما في نقل أحداث المظاهرات وإيصال للعالم أن جبهة التحرير الوطني هي المسير للشارع الجزائري الممثل الوحيد للشعب الجزائري.