هُمُومٌ..
عبد العزيز بن سايب/
الرغبةُ في تكوينِ الشبابِ مَقصدٌ حَسَنٌ وضَروريٌّ.. لكن لا بد أن يكون بحكمةٍ وحَذَرٍ..
في مرحلة الثانوية بَدَأْتُ التزامي بديننا الحنيف، فكُنْتُ وبعض الشباب مَحَطَّ عنايةِ بعض الإخوة الأكبر سِنًّا في مسجدنا مسجد “الفتح” بحي سيدي مبروك.. جزاهم الله كل خيرٍ..فكانوا يزودوننا بالكتبِ المفيدةِ والمؤلفاتِ المنتشرةِ التي يَكتبُها دُعاةُ العلماءِ..مما يُنَمِّي الوَعيَ، ويَغرسُ الفضائلَ، ويُنَبِّهُ إلى مخططاتِ الأعداءِ، ويَنْقُضُ طُعونِ المغرضينِ..
من هذه الكتب التي اقترحها عليَّ بعضُ الأفاضل للقراءة كتاب “هُمُومُ دَاعيةٍ” لسيدي الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى .
أخذتُ الكتابَ بكل شوقٍ واهتمامٍ..كيف لا وهو من تأليف حبيب القلب الشيخ الغزالي، وشرفني بترشيحي لقراءته أحد الإخوة الأفاضل.
لا أُخفيكم أن كآبةً لازَمَتْنِي قُرابة الأسبوع عندما قرأتُ هذا الكتاب المليء بكميةٍ كبيرةٍ من عرضِ وعلاجِ سلبياتِ واقعِ أمتنا، والهمومِ الثقيلةِ التي أَرْهَقَتْ كاهلَ فضيلةِ الشيخ الغزالي.. رحمه الله تعالى ..
فَقَدْتُ طَعْمَ الحياةِ.. وكَثُرَ شُرُودِي وتَيَهَانِي.. وصار السَّوَادُ يُغَلِّفُ مشاعري نحو الواقع الرَّدِيءِ الذي ابتُلِيَتْ به أمتُنا من الخارجِ وفي الداخلِ.. وما انزلقتْ إليه البشرية.
وشاء الله تعالى بزيارةٍ للشيخ الغزالي في مكتبه بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية رُفْقَةَ ثُلَّةٍ من شباب مسجدنا بمسعى مبارك من أحد رُوَّادِ المسجد العُمَّالِ في الجامعة.
وكان مما جرَى الحديثُ عنه في تلك الزيارةِ الطيبةِ أني صارحتُ الشيخَ -رحمه الله تعالى – بالمشاعرِ التي طَغَتْ عليَّ من جَرَّاءِ مطالعتي لكتابه “هموم داعية”..
فأجابني الشيخ مُبتسما باللهجة المصرية: “.. يا ابْنِي.. أنا كَتَبْت الكتابَ دَاهْ والهمومُ قَتْلَانِي..”.. أي كتبت ذلك الكتاب والهموم تَقْتُلُنِي قَتْلا.
نعم.. الشيخ -رحمة الله تعالى عليه – كان من الرجال الْمُشتغلين بواقع أمته.. يَحْزَنُ لمصائبها.. وتَستفزُّهُ مناوشاتُ الحاقدين لدينه.. ويتضايق من طِيْشِ أفرادها.. ويأخذه الهمُّ كُلَّ مأخذٍ من قُصورِها وتقصيرِها.. فيبذل جهدا عظيما في تقويمها وتنبيهها بالوسائل المتاحة له.. من كلمة مسموعة أو مقروءةٍ.
والشيخُ في آلام “هموم داعية” مَعْذُورٌ.. إن شاء الله تعالى مَأْجُورٌ.. فهو يكتب كتبه محتسبا ناصحا.. لطبقة مُعيَّنَةٍ، ويوجهها لعقولٍ ونفوسٍ مُهتمة بنفس مشاغله، تُدرك مراميه، وتنتبه لقوارعه..
وإنّما العَتْبُ لمن يقدِّمُهُ لمن ليس في ذلك المضمار ولا يقوي عليه..
إنه لخطأٌ اقتراحُ مثلِ هذا الصِّنْفِ من الكتب لشابٍّ في 15 من عمره، في بداية طريق التزامه، والأملُ يَمْلَأ أرجاء فؤاده، والطُّمُوحُ يدفعه قُدُمًا للرُّقِيِّ والاستزادةِ..
فانتقاءُ الكتبِ التي يُزَوَّدُ بها الشبابُ ينبغي أن تُرَاعَى فيها المرحلة العمرية.. التي تنفع في البناءِ والتحصينِ، وتقويةِ الإيمانِ، وتعميق العقيدة في اللهِ جل جلاله والآخرةِ.. وما يزرعُ التفاؤلَ ويَرفعُ الهمَّةَ.. ويُحَذِّرُ من المخططات والسلبيات.. لكن بجرعات مُناسبةٍ مدروسةٍ..
أما كتب الصراعات والدسائس والخلاف المقيت فلها رجالها من ذوي النُّضْجِ وسَعةِ الأُفُقِ وابتكار الحلول وتحاشي المثالب..
فإذا كان عالمٌ داعيةٌ بوزن الشيخ الغزالي -رحمة الله عليه – قد قتلته هموم الأمة.. وهو الْمَزُوحُ ضاحكُ النَّوَاجِذِ.. فكيف بشابٍّ صغيرٍ طَرِيٍّ مُبتدئٍ حديثِ عَهْدٍ باللَّهوِ واللَّعِبِ والشَّغَبِ.
فليس ما يَصْلحُ لقومٍ يَصلحُ لآخرين.. وليس كُلُّ جُرْعة دواءٍ يَقْوَى عليه كلُّ أحدٍ.. زيادةً على الآثار السلبيةِ والمدَمِّرَةِ أحيانا لبعض الناس إذا حُمِّلُوا فوق طاقتهم.
“ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا”.