مع الشيــخ الغزالي ….رحمة الله عليه
يكتبه: حسن خليفة /
لم يكن مرور الشيـخ الداعية المتميز محـمد الغزالي رحمة الله عليه على قسنطينة وجامعتها الإسلامية مرورا عابرا ولا عاديا، بل كان مرورا بنكهة خاصة، وبقيم مضافة متعددة الأوزان والأشكال…
كان الرجل طرازا خاصا من الرجال، قبل أن يكون طرازا خاصا من الدعاة والعلماء العاملين المهمومين بأمتهم ..كان مثقفا يقظا متبصّرا، رائدا.
كان منفتحا واسع الانفتاح على كل الآفاق الثقافية والفكرية والإنسانية، وكان قارئا نهِما، وبحّاثة متمرسا، وهوما جعله ضليعا في علوم الدين والعلوم الإنسانية والاجتماعية.
كان يقرأ كثيرا، ويحفظ الشعر، والحكَمَ، والأمثال…ويستخدم كل ذلك في أحاديثه وكتاباته، وهذا ديدن المفكرين والدعاة والعلماء، ولنذكر الإبراهيمي (رحمه الله عليه) ومخزونه الرفيع الوفير من الحفظ وقدراته الرهيبة على الاستذكار، ودعوته للطلبة بأن يجعلوا الحفظ الواعي جزءا أصيلا من تكوينهم العلمي والتعليمي.
كان الشيخ الغزالي يدرّس، ويخطب، ويحاضر، ويتحدث، في لقاءات ومؤتمرات وندوات، كما كان يسجل للتلفزيون والإذاعة، بألوان مختلفة من الأداء، وأشكال متنوعة من التميز في الإلقاء والأداء وحضور البديهة، وتسلسل الأفكار وروعة اللغة التي كانت مادته الأثيرة في الإفصاح والإبلاغ، وكان كل ذلك يصدُر عن مشكاة نورانية واحدة ..إيمانية المنبت، إسلامية الروح، غزالية النكهة …خيرية نفعية للناس.
سنوات عدة قضاها معنا في قسنطينة فضيلة الإمام رئيسا للمجلس العلمي لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، كان يصل فيها الليل بالنهار داعية ومذكّرا وناشرا للخيرية والإيمان والاستقامة.
تلقى ما تلقّى من «عدوان» على أيدي وألسنة بعض الطلبة الذين كانوا يدرُسون في الجامعة ومن خارجها أيضا، ينعتونه بأقبح النعوت، ويحقّرونه ويصفونه بصفات لا تليق ولا تجوز. وتلقّى ما تلقّى من إهانات وسوء معاملة من هنا وهناك .
نعم تعبَ وارتهـق، وعبر عن ذلك أحيانا..ولكنه صمَد وثبت وأدى ما عليـه أو ـ على الأقل ـ أدى الكثير مما عليه نحو دينه ونحو المجتمع الذي جاءه زائرا داعيا إلى الله على بصيرة، تقبل َ الله منه ذلك قبولا حسنا وجعله في ميزان حسنـاته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
****
عدتُ إلى بعض أوراقي القديمة فوجدت مجموعة رسائل كتبتُها للشيخ الغزالي قبل أكثر من ثلاثين عاما، وكنتُ نسيتها تقريبا، ثم تذكرت أني نشرتُ شذرات عنها ومنها في جريدة «الأسبوع العربي»(الأسبوعية)، قبل سنوات، وللأسف لا أحتفظ بالأرشيف الخاص بالجرائد، وهذا عيب من عيوبي.
وعندما أعدت قراءة ما وجدتُه من تلك الرسائل، وغيرها مما له صلة بالشيخ رحمة الله عليه تداعت الأيام والذكريات في ذهني واسترجعتُ الكثير من الملابسات والمشاعر والظروف التي كنّا فيها يومئذ في أوائل ما سُميّ الصحوة الإسلامية الرشيدة، ثم كبّرت الصورة فوجدت أن مرور الشيخ الغزالي كان قدراجميلا من أقدار الله تعالى، مما يجب أن نعرف «نفعَه» بشكل جيد، ونستثمر في ذلك النفع لتعزيز الخط الأقوم في مجال الإصلاح المجتمعي للأفراد والهيئات والجماعات ..
كم كان الشيخ الغزالي يحارب على هذه الجبهة العريضة الشائكة، كغيرها من الجبهات التي يؤتى الإسلام منها وأعني هنا جبهة التغيير الهاديء الرصين أو جبهة العمل الدعوي الناضج الناصح الجامع، لأن المطلوب من الدعاة ليس أن يسوقوا الناس إلى الجنة (بالسلاسل) وإنما يسوقونهم إليها ـ بعون الله ـ بالحبّ والرفق والأناة، وذلك يحتاج إلى الصبر والـرحمة والتحـمل والقدرة على الاستيعاب الدفيء العطوف.
ومن الجبهات الأخرى …التي كان يعمل عليها الشيخ الغزالي:
– جبهة محاربة التفريق والتمزيق بين المسلمين؛ لأنها تضعِفُ ولا تقوّي؛
– جبهة إعداد الدعاة (المثقفين) العارفين بفقه الدين وفقه الحياة؛
– جبهة الآداب والفنون وما فيهما من قوة تأثير على النفوس والقلوب، بما يستلزم وجوب الأخد بها، وإعداد البيئات المناسبة لانبجاس وولادة المواهب الأدبية الشعرية والمسرحية والفكرية؛
– جبهة الاعتدال وهو القائل (اعتدلوا حتى في الاعتدال )؛..لأن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، لا يغالبه أحد إلا غلَبه؛
– جبهة الرفق والمسامحة والحب في مجال الإبلاغ والبلاغ والدعوة،
– جبهة توسيع دوائر التأثير والانتشارللإسلام وقيّمِــه، لدى كل فئات المجتمع؛
– جبهــة الترشيد والتعقّل، ونبذ الغلوّ
وما أكثرها من جبهات،وما أوسعها وما أمرّ العمل (الذي هو أشبه بالقتال) فيها، خاصة مع العُدة الضعيفة، والصفوف غيرالمتساوية(المنكسرة المخذولة)، وغلَبة العواطف الدافعة إلى العواصف، وقلة العلم، مع وجود مخابر كادّةً عاملة ًناصبةً تحفر في العمق للتفريق والتشتيت وصناعة الفوضى، والكيد للإسلام وأهله …وتلك جبهة أخرى وليست الأخيرة وسنوالي نشرما يكشف بعض خصوصيات هذه الشخصية الكبيرة ..بحول الله.