مظاهرات 11 ديسمبر أو الاستفتاء الحقيقي على الاستقلال

أ.د. عبد الرزاق قسوم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
إن الحادي عشر من ديسمبر، عام 1960، هو يوم ليس كباقي الأيام، فقد امتزجت فيه الأنغام بالألغام، وانطلقت فيه الأقدام نحو الإقدام، وتحرر فيه المواطن الخاص والعام، من الأوهام. إن مظاهرات ديسمبر، هي التجسيد العملي، لشعارات أول نوفمبر، حيث تم التعبير بصدق عن المشاعر، ووعي الضمائر، وتجلي البصائر، فتزين الجزائريون والجزائريات –عَلنا- بعَلم الجزائر.
ظهر –إذن- ما كان خفيا، يومَها- من الأشواق، فحُملت الجزائر، على الأعناق، وحُبست الدمعة في الأحداق، وآذن فجر الجزائر المستقلة بالإشراق.
إن الذين عاشوا مظاهرات ديسمبر فساهموا في تنظيمها، واكتووا بنيرانها ليدركون، أن هذه المظاهرات لم تكن عفوية، ولا حدثا عابرا، وإنما كانت النتيجة العكسية، لمقدمات خاطئة، ظل العدو الفرنسي يروّج لها.
فالمظاهرات الاستفزازية العدوانية، التي قام بها المستوطنون الفرنسيون يوم 13 ماي 1958، قد كانت الحافز، لإخراج الوعي الوطني الذي ظل محتبسا في الشرايين.
لذلك عندما خرجت إلى العلن مظاهرات ديسمبر 1960، جاءت قوية، وشعبية، وشمولية، فقدّمت مجموعة من الرسائل، إلى المستعمرين الفرنسيين، والمستوطنين العنصريين في الداخل وإلى الرأي العام الدولي، بجميع تنظيماته في الخارج ومن هذه الرسائل:
1- التنظيم المحكم، الذي اتسم بالشجاعة والانضباط، وتأصيل الشعارات الجلية الواضحة على جميع المستويات.
2- مثلت مظاهرات ديسمبر، ما يعرف بلغة الإعلام المعاصر، بالربيع العربي الحقيقي، وبالحراك الشعبي الأصيل والنبيل.
3- مثلت مظاهرات ديسمبر أيضا استفتاء حقيقيا للاستقلال الوطني، حَكم بالبطلان على الأطروحة الكولونيالية، وإعلامها المضلل، الذي كان يروّج، لأسطورة الجزائر فرنسية.
4- قدّمت المظاهرات الشعبية، خطابا واضحا للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي كانت تبحث آنذاك (يوم 14 ديسمبر 1960) مشروع إعلان حق الشعوب المستعمرة في الحصول على استقلالها الوطني.
5- حَمَت المظاهرات الشعبية، ظهر المجاهدين في الجبال، من جنود جيش التحرير الوطني، فعزّزت فيهم الإرادة، وقدّمت لهم الدعم المعنوي، لتكليفهم بالريادة والقيادة، والتأكيد على أنّ، الزمن المتبقي، أصبح قليلا، للحصول على الاستقلال والسيادة.
وها هي الحقائق التاريخية، بدأت تتجلى من داخل صفوف العدو الفرنسي نفسه، «فاعترفوا بذنوبهم»، وهذه صحيفة «العالم الدبلوماسي الفرنسية» تضطر إلى الاعتراف بالحقيقة التي ظل العدو يتكتم عليها، سواء بالنسبة لعدد ضحايا المظاهرات، أو بالنسبة لحجمها وأهميتها.
وها هو المؤرخ وعالم الاجتماع ماتيو ريغوست Mathieu Rigouste، يكشف للعالم في دراسة تاريخية اجتماعية، أن المظاهرات التي تمت منذ ستين سنة خلت، قد كانت مليئة بالدروس والمعاني، وكلها، كشفت عن زيف الأطروحة التي حاولت فرنسا أن تقدمها للشعب الفرنسي وللعالم.
ومن هذه الدروس، أن المعركة التي كان يخوضها المكافحون الجزائريون، في الجبال لم تكن معركة معزولة عن الجماهير الشعبية، وإن زيف «الجزائر الفرنسية»، أو « الجزائر الجزائرية» قد كانت نوعا من «الأفيون» لتخدير وتضليل الرأي العام الفرنسي والدولي.
وإذن فإن الشعب الجزائري صاحب ملحمة نوفمبر، ومعجزة ديسمبر، وبطل الحراك الشعبي المتجذر، إن هذا الشعب يملك كل مقومات الحياة السعيدة، لو وجد القيادة الحكيمة، والريادة السليمة، التي تقوده إلى الخير، وتدله عليه بخطوات عظيمة.
واليوم، ونحن نحيي ذكرى 11 ديسمبر، فماذا يمكن أن نستلهم من معانيها؟ هل نكتفي بالشعارات، وعبارات البطولات دون أن نغوصَ في الثوابت، والمقومات؟ ماذا نحن فاعلون، إزاء المبادئ التي استشهدت من أجلها حاملة العلم الوطني في المظاهرات، وحامل اللافتة المخضبة بالدماء والمتضمنة للشعارات؟
إن الأعياد الدينية والذكريات الوطنية يجب أن تظل ملهمتنا، لبناء الغد الأجمل والمجتمع الأفضل، والوطن الأمثل.
ولتحقيق ذلك، يجب أن لا نحمّل المسؤولية الوطنية، إلا لمن أثبت هو أو أسرته جدارة القدرة والاستحقاق، كما أن المبدأ الذي به، نستطيع أن نحظى بثقة الجماهير إنما هو العدل، فالعدل هو الأوكسجين الذي به نقضي على ثاني أكسيد الكربون الذي عشش لدى بعض المسؤولين، وحتى بعض المواطنين.
فهذا العنف الأعمى الذي، تفشى في أوساط مجتمعنا، وهذه الآفات الاجتماعية، كالمخدّرات، والكحول، وخيانة الأمانة، واختطاف الأطفال والنساء، إن هذه الظواهر المشؤومة، إنما تفشت بسبب غياب العدل.
إن الجزائر –يا بني وطني- تئن اليوم تحت وطأة مجموعة من الإصابات، بدء بإصابات داء «الكورونا» ووصولا إلى إصابات أنواع الخيانات الملعونة.
ولسنا يائسين، إننا بالرغم من عمق الجراحات، وجسامة الابتلاءات، نظل نتطلع إلى من قد يسوقه الله، إلى إحداث المعجزات، وتجاوز الصعوبات، وتمكين الوطن والمواطن من تخطي الفخاخ والمطبّات.
ذلك أن الجزائر، التي بناها العلماء العاملون، والشهداء الصادقون، والمجاهدون المخلصون، والمواطنون الصامدون، إن هذه الجزائر، لا يمكن أن تسقط، مهما عمل على إسقاطها الفجّار، ويحاول تمزيق وحدتها الخونة الأشرار، وتواطأ ضدها عملاء الاستعمار.
فصبرا ! صبرا! يا أبناء الجزائر! فمهما ادلهمّ الليل، ومهما طفح الكيل، ومهما اشتد الويل، فإن القحط سيتلوه السيل، ويومئذ يفرح الجزائريون، بنصر الله ينصر من يشاء.
إنه نداء صادق من الأعماق، إلى كل وطني غيور، وإلى كل مواطن صبور، وإلى كل غني شكور، أن يلتقي الجميع، على قاعدة الفرح والسرور قاعدة التوحيد، لإصلاح الأمور، وحماية الثغور، وتصفية النفوس التي في الصدور.
وتأسوا بقول الإمام الشافعي:
وَلَرُبَّ نازِلَةٍ يَضيقُ لَها الفَتى
ذَرعاً وَعِندَ اللَهِ مِنها المَخرَجُ
ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها
فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ