اليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة

أخرج الإمام مسلم في صحيحه عَنْ صُهَيْبِ بن سِنَان – رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ).
وافق يوم الخميس الماضي اليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة، والذي يأتي في الثالث من شهر ديسمبر من كل عام، ونحن هنا نُبين وجهة نظر الإسلام كي يكون المسلم على بَيِّنة من أمور دينه.
من المعلوم أَنَّ ديننا الإسلامي الحنيف قد أرشدنا إلى ضرورة العناية بالضعفاء وذوي الاحتياجات الخاصة الذين أُصيبوا في أجسامهم وَحَوَاسِّهم وأصبحوا يعيشون أوضاعاً صعبة؛ لذلك فقد أوصى رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – بمساعدة الضعفاء وتوفير الحياة الكريمة لهم، وبيَّن -عليه الصلاة والسلام- فضل هذه الشريحة الضعيفة كما جاء في الحديث: (هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلا بِضُعَفَائِكُمْ)، وتظهر رحمته – صلّى الله عليه وسلّم- بذوي الاحتياجات الخاصة عندما شرع الدعاء لهم، تثبيتًا وتشجيعاً لهم على تَحَمُّل البلاء؛ ليصنع الإرادة في نفوسهم ويُقوِّي العزيمة في قلوبهم، فَإِنَّ الإرادة القوية والإصرار المتواصل عناصر تُمَكِّن ذوي الاحتياجات الخاصة من تجاوز إعاقاتهم، كما جاء في الحديث الشريف عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: (أَلا أُرِيكَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ السَّوْدَاءُ أَتَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ وَإِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي، قَالَ: إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ، فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إِنِّي أَتَكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ لا أَتَكَشَّفَ، فَدَعَا لَهَا).
الرسول صلى الله عليه وسلم … وَذَوُو الاحتياجات الخاصة
لقد عمل رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – على دَمْجِ ذوي الاحتياجات الخاصة دمجاً كاملاً في المجتمع الإيماني حيث كلَّفهم بأعمال جليلة، ومن الجدير بالذكر أَنَّ كثيراً من هؤلاء قاموا بجهد كبير في خدمة الدعوة الإسلامية، ونحن هنا نذكر بعض الأمثلة لأولئك الأعلام، ومنهم :
* عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما-:
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – ، وكان – رضي الله عنه – أَحَدَ فقهاء الصحابة، حيث كان المسلمون يرجعون إليه في كثير من الأمور الفقهية، كما برع في التفسير، ومن المعلوم أَنَّ عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما- قد اشتهر بروايته للحديث، حيث كان أحد الصحابة الكرام المُكْثرين من رواية الحديث النبوي، فقد بلغت مروياته ما يقرب من (1660)حديثاً، وقد فَقَدَ ابن عباس- رضي الله عنه – بصره في أواخر عمره، فصبر على ذلك لِمَا فيه من الأجر العظيم، كما جاء في الحديث عن أنس بن مالك – رضي الله عنه- قال: (سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ قَال:َ إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بحَبيبَتَيْهِ فَصَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجَنَّةَ»، يُرِيدُ عَيْنَيْهِ)، وكان يُنشد – رضي الله عنه – قائلاً:
إنْ يأخُذِ اللَّهُ من عينيَّ نُورَهُمـــا ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نـــــورُ
قلبي ذَكيٌّ وعَقلي غَيْرُ ذي عِوَجٍ وفي فمِي صارمٌ كالسَّيفِ مأثورُ
*عبد الله بن أُمِّ مكتوم- رضي الله عنه-:
عبد الله بن أُمِّ مكتوم من الصحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين – وكان أعمى، ذهب إلى النّبي- صلّى الله عليه وسلّم – ليجلس معه، فأعرض عنه – صلّى الله عليه وسلّم – لانشغاله بدعوة صناديد قريش وسادتها لعلَّ الله يشرح صدورهم، فجاء عتاب الله لنبيِّه -عليه الصلاة والسلام- في آيات تُتْلى إلى يوم القيامة {عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَن جَاءهُ الأَعْمَى … }، وكان-صلّى الله عليه وسلّم – يستقبله قائلاً: «أهلاً بِمَنْ عاتبني فيه رَبِّي»، وقد وَلاَّه – صلّى الله عليه وسلّم- على المدينة في بعض الغزوات، فهو يتولَّى الخلافة نيابة عن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -، وذلك دليل واضح على ضرورة تفعيل دور ذوي الاحتياجات الخاصة ومدى الثّقة بهم، كما جعله- صلّى الله عليه وسلّم- مُؤذِّناً له، كما جاء في الحديث: (إِنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ).
*عمرو بن الجموح- رضي الله عنه-:
هو عمرو بن الجموح أحد الصّحابة الكرام – رضي الله عنهم أجمعين – كان من أشراف العرب، وَمِمَّن يُشار إليه بالبَنَان، وكان – رضي الله عنه – يُعاني من عَرَجٍ شديد، شَهِدَ – رضي الله عنه- بيعة العقبة الثانية، كما شَهِدَ مع الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – معركة بدر، فلما جاءت غزوة أُحُدٍ عَزَمَ – رضي الله عنه- على المشاركة فيها، لكنَّ أبناءه أجمعوا على منعه لأنه شيخ كبير طاعن في السِّنّ، وهو أعرج شديد العرج، فغضب – رضي الله عنه- أشدَّ الغضب، وانطلق إلى رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم- يشكوهم، فقال يا رسول الله: إنَّ أبنائي هؤلاء يُريدون أن يَحْبِسوني عن هذا الخير، وهم يَتَذَرَّعون بأنِّي أعرج، والله إني لأرجو أنْ أَطَأَ بعرجتي هذه الجنّة، فقال الرسول -عليه الصلاة والسلام- لأبنائه: «دعوه، لعل الله عزَّ وجلَّ يرزقه الشهادة»، وتوجّه- رضي الله عنه- نحو القبلة داعياً ربه: «اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك ولا تَرُدَّني إلى أهلي خائباً»، واسْتُشْهِد- رضي الله عنه- ومعه ولده خلاد في معركة أحد.
هذا هو المنهج النبوي في التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، في وقت لم تعرف فيه الشعوب السابقة حقًّا لهذه الفئة، فقد قرّر رسولنا الكريم الرعاية الكاملة والشاملة لهم، وجعلهم في سُلَّم أولويات المجتمع الإسلامي، ورغَّب في الدعاء لهم، وحرَّم السخرية منهم، وَيَسَّرَ عليهم في الأحكام، ورفع عنهم الحرج.
أصحابُ الهِمَمِ العاليــة
لقد كرَّم الإسلام جميع أبنائه وفي مقدمتهم ذوي الاحتياجات الخاصة، فهم جزءٌ مُهم من مُكَوِّنات المجتمع، ولهم دورٌ بارز في رفعته والنهوض به كغيرهم، فلم تُعِقْهم عاهاتهم قط أن يكونوا علماء وفقهاء، حيث نبغَ عدد كبير منهم، فألَّفوا المُجَلَّدات خدمة لدين الله، ومنهم على سبيل المثال:
*الإمام محمد بن عيسى الترمذي: صاحب كتاب السُّنن وهو من أشهر علماء الحديث، وكان ضريراً.
* الإمام الأعمش: شيخ المُحَدِّثين، من الموالي، كان أعمش العينين (ضعيف البصر) فقير ذات اليد.
*الإمام قالون: أحد أشهر أئمة القراءات، كان رجلاً أصمّ لا يسمع.
* الإمام عطاء بن أبي رباح: الفقيه المعروف الذي كان يُنَادَى عنه في موسم الحج «لاَ يُفْتِي النَّاسَ إِلاَّ عَطَاءُ بنُ أَبِي رَبَاحٍ»، وكان رجلاً يصفه الذين ترجموا له: بأنه كان أسودَ، أفطسَ، أعرجَ، أشلَّ.
* الإمام ابن الأثير: كان مُصاباً بمرض في ركبته ولم يستطع الأطباء معالجته، فقال لهم: دعوني إنني لمَّا أُصِبْتُ بهذه العاهة أَلَّفْتُ جامع الأصول ويتكون من أحد عشر مجلداً، وكذلك النهاية في غريب الحديث و يتكون من أربعة مجلدات ، ومن المعلوم أنّ الإمام ابن الأثير – رحمه الله – كتب هذه المراجع العلمية وهو مقعدٌ، وغير هؤلاء كثير، رحمهم الله جميعاً.
ومن الجدير بالذكر أن عدداً من ذوي الاحتياجات الخاصة في عصرنا الحاضر قد نالوا أعلى الدرجات العلمية، وتقلَّدوا مواقع مُهمة في شتّى المجالات، وقدَّموا خدمات جليلة لمجتمعهم وأمتهم.
رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة
إِنَّ أحبابنا من ذوي الاحتياجات الخاصة يُشكلون شريحة مُهمة في مجتمعاتنا ، وما حَلَّ بهم من بلاء لا يُقَلِّل من شأنهم ولا يُنْقِصُ من قدرهم وعطائهم، فالابتلاء أمرٌ حتمي في حياة المسلم ، فقد أرشدنا نبينا – صلّى الله عليه وسلّم – إلى أَنَّ المؤمن دائماً أمره خير، إذا أصابته سرَّاء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، وكما قال الشاعر:
قَدْ يُنْعمُ اللهُ بِالبَلْوَى وَإِنْ عَظُمتْ
وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ القَوْمِ بِالنِّعَمِ
وبهذه المناسبة فإننا نُوجه مناشدة للأخوة المسؤولين في مختلف مواقعهم وللمؤسسات العامة والخاصة بضرورة رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة؛ ليتمكنوا من تلبية احتياجاتهم وليحيوا حياة كريمة، كما يجب علينا أن نعمل على تأهيلهم وإقامة المشاريع الإنتاجية الخاصة بهم، وضرورة دمجهم في المؤسسات .
وصلَّى الله على سيِّدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.