«عالم ما بعد جائحة كوفيد-19: مآلات الأيديولوجيا والإقتصاد»
د. عثمان عثمانية */
«أنا أؤمن بأنّنا جزء من البشرية، جزء من هذا العالم، ولسنا أقل شأنا من شعوبه، شرقية أو غربية، ولـمـّا نناقش القضايا التي تواجه الجميع في ذات وقت مناقشتها لدى الشعوب المتقدمة أو قبلها، نكون في طريق الإنتصار في معركة الوعي، ولـمّا ننتصر في تلك المعركة يمكننا أن نخوض معركة الحضارة بكل ثقة».
إختبرت جائحة كوفيد-19 على مدى الأشهر الماضية النظم الإقتصادية، السياسية، الإجتماعية، الصحية والعلمية لمختلف دول العالم. وقد كانت النتيجة الوحيدة الثابتة، هي أنّها كلها فشلت في مواجهتها. ومن الغريب أنّ دول العالم التي تعيش مرحلة من التقدم العلمي والتقني لم يُشهد لها مثيل في التاريخ الإنساني، لم تجد ما تفعله سوى ما فعلته قرنا قبل ذلك، لـمّا أصابت جائحة الأنفلونزا الإسبانية العالم. لذلك، تُشكل هذه الجائحة حدثا أساسيا، ستتبعه تغيرات وتحولات عدة لا محالة.
يأتي كتاب «عالم ما بعد جائحة كوفيد-19: مآلات الايديولوجيا والإقتصاد» الصادر عن دار ميم للدكتور عثمان عثمانية، ليُسلط الضوء على تلك التغيرات والتحولات بهدف إستشراف ملامح العالم الناتج عن الجائحة، إن على مستوى الأيديولوجيا، الجيوسياسة أو الإقتصاد.
أعلن الكاتب موت النيوليبرالية، التي جعلت من النظم الصحية والإجتماعية عالية الهشاشة، فلم تكن قادرة على توفير أدنى متطلبات الوقاية كالكمامات والسوائل المعقمة. وبينما كانت معرفتنا بفيروسات كورونا تمتد إلى ستة عقود مضت، لم يكن التفكير في البحث عن لقاح أو دواء يقينا منها سابقا ليدر الأرباح الكافية، على اعتبار أنّ عدد المصابين لم يكن كافيا! وهذا راجع أساسا إلى هذه الأيديولوجيا. وفي غياب بديل جاهز يحل محلها، يرى الكاتب أنّ الأقرب للتصور هو العودة إلى الليبرالية التي كانت سائدة قبل الثمانينيات من القرن العشرين.
ولا يتوقف الأمر عند النيوليبرالية فقط، فالعولمة أيضا والخطاب الذي صاحبها سيتراجع بعد الجائحة، فما بدأ بإغلاق الحدود والإنكفاء على النفس، سينتهي بإحلال أهم عناصر العولمة حديثا: سلاسل القيمة العالمية. فتوقف نشاط الكثير من المؤسسات عبر العالم بسبب توقف إمدادات مدخلات إنتاجها، سيُؤدي بعد الجائحة إلى اختيار سلاسل قيمة أقصر وأقرب إقليميا، وسيدفع بالدول إلى التفكير جديا في بحث سُبل إكتفائها من إحتياجاتها الأساسية مستقبلا، ما سيدفع بالعولمة إلى الوراء.
ستُؤدي الجائحة أيضا إلى وضع أسس نظام عالمي جديد، مختلف عن ذلك الذي نتج عن التوازنات التي كانت قائمة بعد الحرب العالمية الثانية، والتي بسطت هيمنة الولايات المتحدة على العالم. هذه الهيمنة ستتراجع، وستصل إلى نهايتها مع صعود محور بكين – موسكو، ليتجه النظام العالمي بعيدا عن الأحادية القطبية التي تميز بها منذ إنهيار الإتحاد السوفييتي. سيتراجع الإتحاد الأوروبي كذلك، وسيكون هناك تفكير جدي في جدوى بقائه واستمراره. كما سنشهد بالموازاة مع ذلك مراجعة دور المؤسسات الدولية، التي أثبتت الجاحة أنّها غير مناسبة لعالم اليوم، وبالتالي سيكون هناك بحث عن حوكمة جديدة لعالم ما بعد الجائحة.
وبما أنّ الإغلاق وإجراءات الحجر والعزل هي التدابير التي اتخذتها كل دول العالم في خضم الجائحة، كان من الطبيعي أن يتضرر الإقتصاد بشكل كبير. فمعدلات النمو الإقتصادي تراجعت بشكل مخيف خلال الفصلين الأول والثاني من سنة 2020، معدلات البطالة إرتفعت، نسب الفقر في العالم تزايدت لأول مرة منذ عقدين، أسعار النفط إنخفضت وديون الدول وصلت إلى مستويات خطيرة.
إضافة إلى ذلك، لن يتراجع الإتجاه المتزايد للتفاوت داخل الدول وبينها هذه المرة كما حدث مع الأزمات الإقتصادية والحروب السابقة، فالجائحة لن تكون «قاضيا» على التفاوت كما كان يُعتقد في البداية، بل ستزيد من حدة الإتجاه المتصاعد لهذه الظاهرة، وستخلق وضعا يُفضل أولئك القادرين على العمل عن بعد، التعلم عن بعد والذين يعملون في القطاعات الأقل تضررا كالتكنولوجيا.
سيُضحي التحول نحو إعتماد التكنولوجيا أكثر فأكثر حتمية بعد الجائحة لا خيارا، فقد شهدنا إستخدام تطويرات وتطبيقات الذكاء الإصطناعي، البيانات الضخمة والروبوتات في كل مراحل الجائحة، سواء في التعامل مع المصابين أو في الكشف عن الفيروس وصولا إلى البحث عن لقاح مناسب.
* جامعة تبسة