سيدي محمد الطبيب…
يكتبه د. محمّد قماري/
لو سألت كل الأطباء في الدنيا عن أبغض الأعمال إليك لأجابك دون تردد المداومة الليلية في المستشفى!
فخلال هدأة الليل قد يجد الطبيب نفسه أمام طارئ لم يحسب له حسابه، والقرآن الكريم علمنا ان نستعيذ «مِنْ شَرِ غَاسِقٍ إِذَا وَقبَ»، وفي الليل ينطلق شذاذ الآفاق من معاقلهم، وقد ينزلون ضيوفا ثقالاً على مصالح المناوبة بالمستشفيات، وقد يأتي من حاصره الأرق أو من يبحث عن ملجأ ولو مؤقتا يقضي فيه بعض الوقت، غير أنه يتمارض ومع على الطبيب إلا التحلي بصبر أيوب وحكمة سليمان إن أراد الخلاص من مداومته في سلام…
ولو اطلقت العنان لقلمي وعرضت عليكم قصصا غريبة مما مر معي في المداومة، لجئتكم بسيل لا ينقطع، ولعل المداومة في شهر رمضان المعظم لها تعقيداتها الخاصة، ففي رمضان يتحيّن كثير من مراجعي المستشفى ساعة الإفطار، لأن عدد المرضى يقل، ويحرم الطبيب ومن معه من الإفطار، فإذا أكمل ذلك الفوج الأول، رأيت الناس يتوافدون جماعات وأفرادا، وفي الغالب لا يتوقف ذلك السيل إلا قبيل السحور…
وذات ليلة وبعد شق الفطر مباشرة، دخل علينا رجل طويل القامة، وقد لف عصابة على رأسه، ويرمقك من تحت حاجبيه الكثين بعينين يتطاير منهما الشرر، وتكاد تلفحك حرارة زفير الهواء المنبعث من منخرين كبيرين تحتهما شارب امتد شعره عرضا وطولا، وكان الرجل يرتدي لباس يذكرك باللباس التركي التقليدي الذي يرتديه رجال المسلسل التلفزي (باب الحارة)…
كانت تسير خلفه تمامًا امرأة، كأنها تستظل بظل عمود في يوم مشمس، وفهمنا أنها المريضة، لكن صاحبنا شرع يشرح ما تشكو منه من ألم، ويجيب على أسئلتي، فلما جاءت ساعة الفحص وقف ملتصقا بي، وكانت المريضة نفساء من أسبوع، فأرسلت صيحة من ألم فحص بطنها، وصاح صاحبنا في وجهي: بالعقل على المرأة!
كل ذلك لأنه ربما استكثر على زوجه المتألمة ان يحملها للمستشفى طلبا للعلاج…
وقد تأتي المنقبة التي ترفض اماطة نقابها، وما على الطبيب إلا أن يخمن إن كانت تشكو من فقر دم أو عسر في التنفس أو ما يمكن أن يسفر عليه الوجه من أعراض المرض، وهذه الظواهر قلت كثيرا في الحواضر والمدن، لكنها موجودة وتجعل عمل الطبيب (مهمة مستحيلة)…
وفي نهاية القرن التاسع عشر، دوّن لنا أحد الأطباء العسكريين الفرنسيين جانبا من عمله وملاحظاته في المجتمع الجزائري، ونشر الدكتور (شارل ديركل) تلك المشاهدات في كتاب صدر سنة 1904 تحت عنوان (De La Pratique de Notre Médecine Chez Les Arabes) وترجمة العنوان (من واقع ممارسة طبنا الحديث بين العرب)…
ومن القصص الطريفة التي حكاها في كتابه، ان امرأة حبلى بتوأم وجاءها المخاض، والنساء في ذلك الوقت لا يعرفن المستشفيات للولادة بل إلى عقود تالية عديدة، وتعسّرت ولادتها غير أن الداية تمكنت من اخراج الطفل الأول، ولم تتمكن أبدا من توليد الطفل الثاني، وأشرفت المرأة على الهلاك، ولم يبق أمام العائلة إلا الاستعانة بهذا الطبيب…
وحضر الطبيب وتمكن من اتمام ولادة الطفل الثاني، وخرج حيًا، وطلب أن يرى الطفل الأول، فصاح كل الحضور بصوت واحد: مات! ومع ذلك أصر على رؤيته، وقدموه له ملفوفًا في خرقة بالية، ولكنه شعر بوجود تنفس خافت، فطلب ماء دافئا، وجعل يحاول انعاش الوليد، الذي ارسل بعد لحظات صرخة الحياة، وتبدل لونه الأزرق إلى جلدي وردي تسري تحته الشرايين…
قال الطبيب: فجعلت كل الحاضرات يقبلن ملابسي وحذائي ويداي، وهنا متعجبات من معجزة بعث الحياة في ميت، ثم سألوا ماذا نسمي هذا المولود، فقالوا: سيدي محمد الطبيب، تبركا بهذا الطبيب العجيب…
والطب الحديث يمنع على الطبيب تحرير شهادة الوفاة قبل مضي ساعتين من الزمن على الأقل، ويشهد على تحريرها بأن حالة الوفاة مستقرة، لكن انتشار القدرية بين المسلمين في عصور تخلفهم، جعلت من بينهم من يؤلف كتابا في (من عاش بعد الموت) ومؤلفه هو الحافظ أبو بكر، عبد الله بن محمد المشهور بـ «ابن أبي الدنيا، وتجد من يكتب عن نوم الجنين في بطن أمه سنين عددا في كتب الفقه، والطب يتحدث عن بداية فساد الحمل بعد مدة اثنين وأربعين أسبوعا في الرحم…
هذه القدرية التي تجعل من (كسل الطالب) واخفاقه مكتوبا، ومن حادث سير يقوم به مأفون نزق مكتوبا وقدرا، ومن اهمال الطبيب والمهندس والاداري والمعلم والأستاذ أقدارا يفلت من يقوم بها من المساءلة والعقاب…
ولعل الأخطر من كل ذلك هو تعليق كل تخلفنا على هذا المشجب الناعم، بينما عقيدة القدر في الإسلام جاءت لتمد الحياة بالطاقة التي لا تنضب، وتقاوم روح الانكسار والانهزام في النفوس، فعقيدة القدر تعني أن يستنفذ المرء طاقته كلها في سبيل العمل والانجاز، فإذا جاءت النتائج على غير ما أعددناه من أسباب فهذا هو القدر…
وهذا القدر هو الذي يعيد تجديد الهمة في البحث عن الخلل في اتخاذ الأسباب، والانطلاق في محاولة ثانية وثالثة…أما القدر الذي يحمي الانحرافات أو يتخذ منه الكسالى مخادع لنومهم بدل الجري والسعي وتجميع أسباب النجاح فلا يمت بصله للدين الذي نعرفه، وللعقيدة التي ندين بها، تلك العقيدة التي جعلت سلف الأمة يبذل أقصى ما يملك من تجميع أسباب النجاح في مختلف ضروب النشاط، فإن أخفق احتمى بالقدر ليجدد نشاطه…