موت العلماء .. وقفات وتأملات

د. جمال دفي/
الْأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَامَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ
كَالْأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَاوَإِنْ أَبَى عَادَ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ
العلماء هم أقمار الدنيا وشموسها، حصن حصين وحرز مكين، يدلون النَّاس على الله، يعلمونهم أمور دينهم، هم حراس الثغور وحملة العلم، قادة الأمة وحملة الألوية، لواء العلم والمعرفة ونشر الدين وحفظ الوطن . يزرعون الأمل وينشرون التفاؤل، هم نجوم الأرض وورثة الوحي.
وتوازن المجتمع واستقراره مرهون بوجود هاته الصفوة التي تحفظ الهوية وتصون الأمة، لأنهم كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ».
إن فقد العالم ليس فقدًا لشخصه ولا لصورته، ؛ ولكنه فقد لجزء من ميراث النبوة، وهو العلم، وذلك مؤذنٌ بقرب الساعة وفشوِّ الضلالة؛ عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»[رواه البخاري ومسلم].
وفي تفسير قوله – جل وعلا -: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾[الرعد: 41]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في رواية: «خرابها بموت فقهائها، وعلمائها، وأهل الخير منها»، وكذا قال مجاهد: «هو موت العلماء» (تفسير ابن كثير).
وقال كعب -رحمه الله-: «عليكم بالعلم قبل أن يذهب، فإن ذهاب العلم موت أهله، موت العالم نجم طمس، موت العالم كسر لا يجبر، وثلمة لا تسد، بأبي وأمي العلماء -أحسبه قال- قبلتي إذا لقيتهم، وضالتي إذا لم ألقهم، لا خير في الناس إلا بهم» (أخلاق العلماء للآجري).
وقد كان السلف -رحمهم الله- يأسون أشد الأسى لفقد عالم من العلماء، قال أيوب -رحمه الله-: «إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي»، وقال يحيى بن جعفر: «لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل -أي: البخاري- من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم».
فأكبر حرمان للأمة أن تفقد علماءها وأهل الفكر والرأي، والحكمة والفقه، والبصيرة، فهم كنوزها الإستراتيجية المذخورة؛ فيتركون في بنيانها ثلمًا لا تسد ولا تعوض، فإذا كانت الجبال أسبابًا يحفظ الله بها الأرض، قال -تعالى-: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}[النبأ:7]، وقال -تعالى-: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}[النحل:15]، فأهل العلم -كذلك- يحفظ الله بهم الأرض، وقد ذكر المفسرون في قوله -تعالى-: {أوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}[الرعد:41]، أن نقصان الأرض بموت العلماء.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: «أتدرون كيف ينقص الإسلام؟ يكون في القبيلة عالمان، فيموت أحدهما فيذهب نصف العلم، ويموت الآخر فيذهب علمهم كله»، وقال -رضي الله عنه-: «موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار».
وتصديق ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»(متفق عليه).
ولما كان للحوادث المؤلمة آثار بليغة في النفوس، كان لابدَّ من وقفات وتأملات، منها:
أولا: إن تعلُّق الناس بذوات الأشخاص ليس منهجًا ربانيًّا، ولا سنة نبوية، فالأشخاص يمرضون ويموتون، ويهرمون ويتغيرون، ويُفْتَنُونَ وَيُبَدِّلُون، ويَثْبُتون ويُحْسِنُون، فالغيب مجهول، والخاتمة لا تُعلم؛ يقول الله – تعالى -: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].
ثانياً: إذا كان أهل النفاق قد راقهم موت علمائنا، فإنَّ الله وعدنا على لسان نبيِّه – صلى الله عليه وسلم – أنَّه يبعث على رأس كلِّ مائةِ سنةٍ من يجدِّد لهذه الأمَّة أمر دينها.
ثالثا: نعقد العزم ونشحذ الهمم من أجل استنبات قيادي جديد يَمْلَأُ فراغاً أحدثوه ويسد كل ثغر تركوه.
رابعاً: نسأل أنفسنا هل اتبعناهم وعلى الحق ثبتناهم وإن احتاجوا أعطيناهم وإذا حزنوا واسيناهم.
خامسًا: نجمع الميراث الذي تركوه فننشره ليهتدي بآثارهم الناس ونورثه للأجيال القادمة.
سادسًا: الاستفادة من أهل العلم حال حياتهم، مع ملازمة الصبر والمثابرة والاحتساب، والسير على منوالهم، والتشبه بحالهم، والعظة والاستشعار بالمسئولية بموتهم.
ثامنا: أن نأخذ العبرة والعظة من موت العلماء وأن الموت أبلغ واعظ.
وكانت في حياتك لي عظاتوأنت اليوم أوعظ منك حيًّا
تاسعا: أن نسعى لترك عمل صالح لتخليد ذكرنا بعد الموت.
ارفع لنفسك بعد الموت ذكرهافالذكر للإنسان عمر ثانٍ
عاشراً: مع شدة حزننا، وتألمنا لموت عالم من العلماء؛ إلا أنه يلزمنا أن نعلم أنه ليس معنى موت واحد من العلماء، ضياع الأمة، وتوقف مسيرة الدعوة، ففيما بقي من أهل العلم في الجزائر والعالم الإسلامي خير كثير، والأمة زاخرة بالكفاءات العلمية، مليئة بالرجال المخلصين الذين يحملون مشعل الهداية؛ فلا ينبغي أن يخور العزم، وأن يضعف العطاء، فراية العلم والدعوة محفوظة ما دام الكتاب والسنة محفوظين، ولا يخلو زمان من قائم لله بحجة. ولما مات الإمام ابن باديس خلفه الشيخ الإبراهيمي وغيره من علماء الجمعية، وكلما مات عَلَمٌ خلفته أَعْلاَمٌ.
لَئِن عَرف التَّاريخ أَوسًا وخَزْرَجًافلله أَوسٌ قادمون وخَزْرَجُ
وإنَّ سُجُوفَ الغَيبِ تُخفِي طَلاَئِعًامُجَاهِدَةً رَغْمَ الزَّحَازِحِ تَخْرُجُ