سلسلة سراج ومعراج

بيت المقدس عاصمـــــــة التحــــــــول الحضــــــاري (11) سيدنا سليمان… تجديد المسجد الأقصى وسيادة العالم

د.كدير مراد/

اصطبغت دولة سيدنا داوود فتية التأسيس بالقيم الحضارية الرائدة التي من أجلها تأسست وترسخت أكثر حين تمثلها رأس الدولة وقائدها سيدنا داوود، فانطلقت مع سيدنا داوود مسيرة دولة الشهود الحضاري وبدأت بسيادته شق طريق التمكين لمنهج الله، من مستوى الدولة الحافظة للحقوق المحافظة على القيم الساعية العاملة لترسيخها في ذلك المجتمع البعيد عن منهج الله عند تحرير المسجد الأقصى. لقد كان تحدي سيدنا داوود ابتداءً تحديا داخليا حين استلام أمانة المسجد الأقصى المبارك وإقليم الأرض المقدسة فكان استكمال بناء المجتمع الحامل للدولة أولوية لبقائها واستكمال وظيفتها والسمو نحو تمكين منهج الله على مستوى البشرية.
ورث سيدنا سليمان من جغرافية بيت المقدس الحكم والنبوة عن أبيه سيدنا داوود عليهما السلام، فكان له مثلما كان لأبويه سيدنا ابراهيم وداوود عليهما السلام الجمع بين السيادة النبوية الاخلاقية والعقدية للأمة والسيادة السياسية الإجتماعية للدولة والمجتمع وورث مع كل ذلك الرسالة الحضارية لتحقيق العبودية لله والاستخلاف في الأرض وعمارة الكون عبر استكمال مسيرة الانبعاث الحضاري بل المراكمة على المستويات السابقة عبر الانتقال من تحدي بناء الدولة إلى نماء الدولة وقيادتها وشهودها على الأمم الأخرى إذ يقول الله عزوجل صاحب الفضل ومانح القيادة والسيادة والمستأمن على الأمانة {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَاأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}.
لقد كان تجديد المسجد الأقصى المبارك كمسجد يذكر فيه اسم الله ويفرد فيه بالعبادة من أولى مهمات سيدنا سليمان عند استلام الحكم، إذ أن الأرض المباركة نالت البركة بفيضان البركة من المسجد الأقصى ما حوله، فتشرفت الأرض المقدسة بتفضيل الله لها على سائر الجغرافية باحتضان بناء ثاني مسجد وضع على الأرض، وقد كان من صور الميراث الحقيقي استلام أمانة ولاية المسجد الأقصى المبارك من أبيه سيدنا داوود الذي استرد الأمانة الموروثة بالتحرير، أمانة ترك الله حفظها للأنبياء منذ ابي البشرية سيدنا ادم بالتأسيس والتشييد إلى سيدنا ابراهيم بالرعاية والإمامة إلى سيدنا موسى بالتخطيط والإعداد للتحرير بلوغا للتجديد وقت سيدنا سليمان عليه السلام.
لقد نال سيدنا سليمان فوق ميراث الحكم والنبوة والعلم عن ابيه سيدنا آدم فضلا ومكانة لم يؤت بشر مثلها، وكان من مستلزمات نيل ذلك الفضل تجديد المسجد الأقصى المبارك بناء ماديا خارجيا للتخليد والتحديد ليحقق شرط المسجد وتجديدا إيمانيا لخصه كمكان عبادة لله ومركز إشعاع إيماني وروحي لتحقيق العبودية لله عزوجل، لقد كان التجديد السليماني للمسجد الأقصى المبارك من الفضل أن كان فاتحة واستحقاقا لنيل ذلك الفضل الذي لم يؤتيه بشر، يذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر بن الخطاب والذي رواه البخاري وصححه الامام أحمد في مسنده (لما فرغ سليمان بن داوود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً حكماً يصادف حكمه وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إثنتان فقد أعطيهما وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة).
لم يطلب سيدنا سليمان ذلك الطلب العظيم لنفسه بل طلب التأييد الالهي لتحقيق الوظيفة والرسالة الثقيلة المكلف بها، وكان تجديد المسجد الأقصى المبارك فرصة عظيمة لنيل تلك المكانة وطلب ذلك التأييد الرباني، لقد جدد سيدنا سليمان الأمانة الموروثة المقدسة لتكون الإشعاع النوراني الذي يخرج البشرية من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد والحكم الحكيم الراشد المصادف لحكم الله لتحقيق العدل والرحمة المشروط لإمتلاك شرف الاستخلاف في الأرض فكان المسجد الأقصى المبارك مقر القيادة والحكم والملك الذي لم يؤته بشر من قبل ومن بعد.
نال سيدنا سليمان من بيت المقدس حكما يصادف حكم الله في القضاء والعدل والرحمة بما يحقق له مقام خليفة الله في الأرض كحاكم راشد عادل بالفهم الذي خصه به الله عز وجل منذ صغره حتى في حضرة حكم والده الحكيم العالم العابد الزاهد سيدنا داود {ودَاود وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}
لم يكن ذلك الحكم مقصدا في حد ذاته لسيدنا سليمان بل كان أداة ووسيلة تمكين رباني واستئمان رباني لاستكمال طريق الانبعاث الحضاري لمنهج الله عزوجل وتمكينه في البشرية التي اعتنقت البهيمية وآمنت بالوثنية أو اثرت العبودية للتأله الفرعوني. لم يستلم سيدنا سليمان الحكم والدولة إلا لاستكمال بناءها لتلعب دورها كقائدة للأمم البشرية بمنهج الله لتحقيق العبودية لله ونيل الهدى الرباني ورفع الجور والظلم عنها وتحقيق العدل والرحمة في أرجائها، فكما كان منهج تحقيق العبودية لله مسارا متراكما من الاهتداء الى التمكين ومن الفرد إلى البشرية أجمع مرورا بالأسرة والمجتمع والدولة والأمة، فإن وظيفة سيدنا سليمان هي استكمال المسير نحو الشهود الحضاري للتوحيد على الأديان البشرية الوضعية الشركية الأخرى والتمكين لمنهج الله على مستوى البشرية عبر أداة الدولة ومستوى الملك والإمامة.
يتبع

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com