هذا هو ابن تيمية/ عبد العزيز كحيل
ظلمته أطراف كثيرة بسبب الجهل والتعصب لكن أحدا لم يسئ إليه مثل من يزعمون أنهم أتباعه، ذلك أنهم صوّروه جامدا منغلقا تكفيريا عنيفا تنضح فتاويه بالدم والإقصاء، وهو أبعد العلماء عن هذه الصفات الذميمة.
أريد بهذه الكلمة أن أنصف الرجل، ولعلّ خلفيتي الفكرية تسمح لي بذلك، فمعرفتي العلمية به تعود إلى أيام شبابي وتتميّز بأني قرأت جميع كتبه تقريبا ودرست فتاويه دراسة وافية ومحّصت منهجه، ولم أتعصب له لأني كنت في نفس الوقت أقرأ لخصومه من العلماء(مثل ابن عطاء من القدامى والبوطي من المحْدَثين) وأبجّلهم كما أبجّله، فأظن أن هذا المسار يجعل كلامي عنه أقرب إلى الموضوعية.
-مجدد القرن السابع: هذا ما أجمع عليه علماء الأمة ولم يطعن فيه سوى خصومه، فقد جدّد في الأصول والتفسير والحديث والفقه والفلسفة وأضاف إلى ذلك خصلتين فذّتين هما ممارسته الجهاد بالنفس بل وقيادة الجيوش لصدّ هجوم التتار على الشام بعد فرار الحُكام الجبناء، و الانكار على هؤلاء الحُكام وهم في سدّة الحكم حيث كان في صفّ الشعب ضدّ ظلمهم وانحرافهم، وسلوكُه لطريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تطفح به سيرته، لا يخاف في الله لومة لائم، فأين أتباعه من ذلك وهم يؤلّهون الحُكام ويبرّرون ظلمهم ومساويهم التي لا تُحصى؟
-حنبلي مجتهد: هو حنبلي المذهب، يميل بالتالي إلى صياغة المسائل الخلافية صياغة عقدية بخلاف المذاهب الأخرى التي ترى –وهي مُحقة – أن مسائل العلم الفرعية تحتمل الاختلاف حتى ولو كانت من فروع العقيدة، فهي تدور بين الصواب والخطأ لا بين الإيمان والكفر، لذلك نجده متشددا في مسائل فرعية يعُدّها من العقائد مثل التوسل وشدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة وما يتعلق بالقبور، وجاء أتباعه منذ زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب فزادوا عليه تشدّدا فيها حتى جعلوها مدار الايمان وسوّغوا بسببها تكفير المسلمين.
وأذكر هنا أن فتواه حول عدم وقوع الطلاق الثلاث في مجلس واحد والتي شُنّع عليه بسببها هي السارية الآن –حسب علمي – في معظم أو جميع قوانين الأحوال الشخصية في الدول الاسلامية على اختلاف مذاهبها ومنها الجزائر.
-التجسيم: اتهمه خصومه بأنه كان مجسّما لله تعالى يشبّهه بخَلْقه، وهذا محض افتراء، فرغم تشدّده الحنبلي في قضية الأسماء والصفات، يُثبتها لله بقوة لكنه لا يجسمه أبدا، بل هو على عقيدة السلف يُمرّها على ظاهرها بعيدا عن والتجسيم والتعطيل، هذا ما تجده في كتبه بكل وضوح.
-موقفه من الشيعة: خاض معارك زمانه الفكرية، ومنها مناظرة الشيعة، وكان شديدا على بدعهم العقدية والسلوكية لكنه لم يكفّرهم في الجملة بل هو صاحب عبارة “لا نكفّر أحدا من أهل القبلة”، وللأمانة العلمية رأيي أنا فيهم هو رأيه عن قناعة وليس عن تقليد ولا تعصّب، مع العلم أنه كان متأثرا بالأحداث السياسية الجارية في زمانه حيث رأى بعض فرق الشيعة تتحالف مع الغزاة التتار والصليبيين ضدّ بلادهم، أما تكفيره الواضح فكان للطائفة النصيرية (التي أطلق عليها الفرنسيون في الزمن الحديث اسم العلوية)، وهو محقّ في ذلك لأنه لا علاقة لها إطلاقا بعقيدة الإسلام ولا أحكامه ولا شريعته ولا قرآنه ولا نبيّه.
-موقفه من الصوفية: هنا أيضا يبدو ظلمه من طرف المتطرفين الذين ينسبون أنفسهم إليه ومن الطرق البدْعية التي تنتسب للتصوف، فهو لم يطّرح التصوف جملة وتفصيلا كما يوهمون لكنه فصّل القول فاحتفى بتزكية النفوس والزهد على الطريقة الشرعية وذكر رجالاته بخير وعلى رأسهم عبد القادر الجيلاني والجنيد وأمثالهما، وكان من جهة أخرى حربا على التصوف الفلسفي الذي يهدم أركان الاسلام من الأساس مثل وحدة الوجود والحلول والاتحاد فحارب تصوّف الحلاج وابن عربي وابن الراوندي بشدة ، كما كان بالمرصاد لأدعياء التصوف الذين لخصّوه في الشطحات الفكرية والسلوكية والركون للظلمة وأنواع البدع الإضافية والتركية.
وقد جمعت الحكومة السعودية في مطلع الثمانينات أعمال ابن تيمية الكاملة في 37 مجلدا، كان المجلد العاشر عن السلوك (أي تزكية النفوس والتربية الايمانية، قال في افي افتتاحه: فَهَذِهِ كَلِمَاتٌ مُخْتَصَرَاتٌ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ الَّتِي قَدْ تُسَمَّى“الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالَ“ وَهِيَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ) والذييليه عن التصوف، بسط فيهما القول في الموضوع ففصّل وعدّل وجرّح، وقد وردت فيه هذه العبارة وهي قاعدة ذهبية عظيمة: “وَإِنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ يَجْتَمِعُ فِيهِ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَمَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَمَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ وَمَا يُذَمُّ عَلَيْهِ وَمَا يُحَبُّ مِنْهُ وَمَا يُبْغَضُ مِنْهُ“،لكن الغريب أن أتباعه لا يشيرون إلى المجلّدين إطلاقا ويصرّون في كتاباتهم وفتاويهم على تجريم التصوف وتحرييمه جملة وتفصيلا ، فأين اتّباعهم لابن تيمية ؟
-موقفه من العقل: شاعت مقولة أن ابن تيمية عدوّ العقل، حرْفي ظاهري جامد ، وهذا أبعد شيء عن الحقيقة، فهو صاحب الكتاب المشهور” درء تعارض صحيح المعقول مع صحيح المنقول”، والمطّلع على كتبه يجده يعلّل الأحكام الشرعية تعليلا عقليا حتى التعبدية منها مثل الحكمة من مسح الوجه في التيمّم، كان شديدا في ردّه على من يقدّمون العقل البشري على الوحي الإلهي، نعم، لكن هو نفسه كان صاحب عقل جبار وذهنية علمية فائقة، وإنما يبغضه العلمانيون بسبب تقديمه القرآن والسنة على الاختيار البشري، وهو محقّ في هذا من غير شكّ بينما هم يتّبعون أهواءهم بغير هدى من الله.
-ضحية للإرهاب الفكري: سُجن رحمه الله أكثر من مرة في مصر ودمشق بسبب آرائه ، يعقد له الأمراء مجالس للمناظرات يواجه فيها منفردا خصومه العلماء فيفحمهم بحجته القوية فينتهي به المطاف في السجن ظلما وعدوانا حتى مات فيه وهو بريء من أي جرم.
-شيخ الإسلام أطبق العلماء منذ القرن السابع على إطلاق هذا اللقب على ابن تيمية، وهو ليس لقبا دينيا (مثل آية الله وحجة الاسلام عند الشيعة) بل هو درجة علمية تدلّ على بلوغ مرتبة الاجتهاد في الدين، وهو يستحقها بجدارة، وهناك علماء متعددون يحملون هذا اللقب لكن إذا أُطلق من غير ذكر الاسم فهو يدلّ على ابن تيمية دون سواه.
-وبعد، إذا كانت آراؤه حقا لا يقبل النقاش عند أتباعه المعاصرين فإنها دليل التزمت والتطرف عند خصومه، والحقيقة –فيما أرى – أن معظم هؤلاء وأولئك لم يدرسوا فكره ولم يتعمّقوا فيه وإنما انطلقوا من مواقف مبدئية أو من آراء جزئية وليس من بنائه الفكري، ولذلك فإن من يسمون أنفسهم سلفيين لو أحاطوا بفكره لأدركوا ألاّ علاقة لهم به إلا في بعض أقواله المشددة والشاذة، أما الذين يقتلون المسلمين بزعم الاعتماد على فتاويه فأظن انه لو كان حيا لحاربهم بالسلاح لأنهم متقوّلون عليه.