الموضوع: حكم هجران المسلم أخاه؟ (دراسات)./ محمد مكركب
قال السائل: قرأت هذا الحديث [هجران المسلم كسفك دمه] في إحدى المجلات الثقافية، واكتفى صاحب المقال بقوله (رواه أبو داود) فهل هذا حديث صحيح؟ وما معناه؟ وهل من قاطعه غيره وهو لا ينوي ذلك يدخل في حكم الحديث؟ وماذا يفعل؟ ولعلمكم أني معلم القرآن الكريم، ولاحظت أن أحد الطلبة من الذين علمتهم القرآن بفضل الله تعالى، لا يحييني بالسلام، وحييته مرة بالسلام، فلم يرد علي؟ ولما قلت لأبيه: لقد تغير سلوك ولدك. قال: لا، بل هو الآن على المنهج؟ ولَمَّا قلت له: ما هو المنهج الذي تقصده؟ لم يجب. فما هو هذا المنهج؟!
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على رسول الله.
أولا: أقول للسائل الكريم: لا تقلق من هذه الظاهرة، لأنها من ضمن فتن الابتلاء.﴿وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان:20] هذه الظاهرة الخوارجية التنطعية، ظاهرة: الهجرة والتكفير، ظاهرة قديمة، يحمل وباءها غلاة متنطعون طائشون، يتحركون بدعوة دعاة على أبوابهم، قال فيهم علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: “إخواننا بغوا علينا”، فكن كالنخلة، أعطهم التمر، ولو رموك بالحجر. عَلِّمْهُم القرآن الكريم، وأجرك على الله تعالى. فلو كان أهل الخير لا يقابلون إلا بالخير، لكان ذلك للأنبياء. قال الله تعالى: ﴿ وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً﴾ [الفرقان:31]. فكن على يقين بأن هذه الفتن التنطعية لا تنتهي، وقد شاء الله تعالى أن يبتلي العلماء بالجاهلين، والمصلحين بالمفسدين، فتنة إلى يوم الدين. والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.
ثانيا: ورد الأمر في القرآن الكريم، والسنة النبوية، بوجوب الأخوة والتواصل بين المؤمنين، كما ورد النهي الشديد عن النزاع والعداوة والهجران بين المؤمنين. وهذا أمر يعلمه العامة والخاصة من المسلمين. ولا تجد من يهجر مسلما عداوة، ويقاطعه ظلما، إلا جاهل أخرق، أو متنطع أحنق، أو سفيه أحمق، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: [لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ]، وقال عليه الصلاة والسلام: [تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْاثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا] (رواهما مسلم.كتاب البر والصلة والأدب. رقم:2565). يحرم على المسلم أن يهجر أخاه المسلم، والأخ المسلم، الذي فرض الله علينا أخوته، ووصله لا يختاره المسلم بمزاجه وهواه، فيآخي من يشاء، ويعادي من يشاء. أو يصل من يشاء، ويهجر من يشاء، يخبطون خبط العشواء، إنما الله تعالى بين من هو الأخ في الدين، وفرض أخوته فرضا على المؤمنين. قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة:5]. ونبلغ هذا للمتنطعين الذين يدَّعُون الولاء والبراء، على منهج الزائغين، المارقين من الدين، ويدَّعون الحب في الله، والبغض في الله، بما لا يحبه الله ولا يرضاه، بدون علم، ولا فقه، ولا أدب. فعامَلوا إخوانهم المؤمنين بما عامل به إبراهيم عليه السلام الكافرين. وكثير من المتنطعين يسلكون سلوك الخوارج الموارج الذين آذوا حتى الخلفاء الراشدين، هجروا علي بن أبي طالب فَصَبَرَ عَليٌّ رضي الله عنه، على أذاهم، وصبر من بعده كثير من العلماء والمصلحين لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، فكن أخي من الصابرين على تنطع المتنطعين، فنابتات المتنطعين لا تنقطع.
والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.
ثالثا: هذا الحديث صحيح. رواه أبو داود، فقال: حدثنا ابن السرح، حدثنا ابن وهب، عن حيوة، عن أبي عثمان الوليد بن أبي الوليد، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي خراش السلمي، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: [مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ] ( أبو داود.كتاب الأدب. رقم:4915)، وانظر رياض الصالحين. رقم: (1596). فهذا المرجع موجود في كل بيت مسلم. ورواه الإمام أحمد في مسنده. من حديث أبي خراش. رقم: 17935).
رابعا: أما المنهج الذي اتبعه هذا الشاب الذي علمته القرآن ثم هجرك، فسوقا وحماقة، فلا يكون إلا منهج المتنطعين، الذين يمرقون من الدين، حذر منهم خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام.
إن من سلوك المتنطعين الذين بدؤوا بذور الفتنة في عهد الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، واشتدت في عهد الخليفة الراشدي الرابع علي رضي الله عنه، هجران العلماء، إلاَّ من هم على شاكلتهم، وتنطعهم. ومازال من سلالتهم نابتاتٌ حنظليةٌ هنا وهناك. ومن فتنهم: ظنهم السيئ في الولاء والبراء، بعض الشباب غرس فيهم شيوخهم الساذجون هواية الجرح والتعديل، بغير علم ولا فقه ولا دليل. يحكمون بهواهم وقبح ظنهم على عالم من العلماء بأنه مبتدع، ثم يتبرؤون منه حسب سذاجتهم، وهرطقتهم ونسأل الله العافية، وأن يقي الأمة شرهم، وأن يبعد الله عنا فتنتهم.
والله تعالى أعلم، وهو العليم الحكيم.