وأصـــدق مــا استخلــص مــن عبـــر.. مشاكــــل النطـــق مــن قلــــة التــــواصـــــــــــــل ..
بقلم الأستاذة صباح غموشي/
كانت المعلمة تسلم الأطفال لأوليائهم الواحد تلو الآخر في الفترة الأولى من التحاقهم بأقسامهم، وكنت منشغلة بعمل في يدي وأراقب حركة الأطفال لدى خروجهم . وحين خرج الجميع ناديت المعلمة وسألتها : ما رأيك في الأطفال .. هل استيعابهم وتفاعلهم جيد؟ .. قالت لا بأس لكن الملاحظة التي ذكرتها لي استوقفتني كثيرا .. قالت لكن يا أستاذة لاحظت أنّ معظمهم لديهم صعوبة ما في النطق .. ينطقون الحروف بصعوبة كأنهم لم يتكلموا من مدة !! قلت لها بحسرة ومن يكلمهم ومن يعلمهم نطق الحروف سليمة والجميع في البيوت شغلتهم هواتفهم ومواقع التواصل الاجتماعي عن التواصل الاجتماعي الحقيقي .. قالت : صدقت أستاذة.
قد يبدو الأمر مبالغا فيه كثيرا .. لكن نظرة سريعة على بيوتنا وجولة خاطفة في غرفها وأروقتها لنستكشف سويا ما وصلت إليه أسرنا من غربة بين أفرادها هي نتاج ظواهر سلبية كثيرة طغت وأفسدت نكهة التواصل التلقائي والجميل بينهم .. يوميات أسرنا تغيرت كثيرا تتحكم في وتيرتها مشاغل الحياة وتسارع أحداثها بشكل رهيب .. فالأسرة جميعا تهجر البيت يوما كاملا من أول بزوغ الفجر تسارع الوقت وتختصر الكلام والسلام وكل شيء لتصل في الموعد .. الوالدان لعملهما والأولاد لحضاناتهم أو مدارسهم أو جامعاتهم .. لا يكاد يكلم أحدهم الآخر إلا أوامر من الوالدين أو طلبات من الأولاد .. وكلها صراخ وبكاء وتشنج وغضب تقريبا .. وغالبا ما لا تجمعهم مائدة إفطار أو غذاء أو عشاء .. ويعود الجميع مساء مسرعين منهكين ضائقة صدورهم من مشاكل العمل والدراسة وتالفة أعصابهم من ضغط الوقت وازدحام الطريق وغيرها ..
يدخل الجميع للبيت في أوقات مختلفة تشغلهم هموم مختلفة وتنتظرهم مهام مختلفة .. فتسرع الأم لمطبخها تسابق الزمن لتحضير العشاء ووجبة الغذاء للغد وغسل الأواني وترتيب المنزل وووو .. وقائمة الأعمال تقطع ما تبقى من أنفاسها وتنهك ما تبقى من جهدها.. ويأوي الأب إلى جهاز التحكم يقلب به محطات التلفزيون لينسى متاعب يومه في تجوال بين أخبار ورياضة وأفلام وغيرها .. أو يرتاح قليلا ثم يخرج لمقاهي اللهو واللعب يسامر فيها أصحابه لوقت متأخر من الليل .. أما الأولاد فأكبر الضحايا .. منهم من حببت له دراسته فيقضي وقتا هاما في مراجعاته ومنهم من يذهب إلى ركنها متثاقلا كأنما يساق إلى السجن .. والصغار منهم حاجتهم للعب لا تنتهي وشغفهم به لا يرتوي، وهم بطبعهم يحبون مشاركة الكبار لهم في لهوهم البريء لكن الكبار مشغولون ليلهم ونهارهم وكل ما يسمعونه منهم أوامر ونواهي وتوبيخ وصراخ ..
وتصوروا معي طفلا صغيرا يجري نحو أمه بالمطبخ لتلاعبه وتحادثه ويتعلم منها نطق الحروف ومعاني الكلمات البسيطة التي ينشأ عليها .. فتنهره وتوبخه وتطرده وتغلق أبواب الحديث كلها معه لأنها مشغولة ومضغوطة ورأسها مثقل بألف حكاية ورواية لا يتحمل ثرثرة ابنها الذي لا يصمت .. فيلجأ لأبيه في غرفة المعيشة عله يجد عنده ما افتقده في المطبخ، فلا تكاد قدماه تطأ عتبات المكان حتى يقابله صراخ والده أن اصمت .. اتركني أسمع .. فيعود أدراجه يجر أذيال القهر يطرق باب إخوته فيجدها موصدة كل مشغول بهمه واهتمامه .. فينكفئ على نفسه ويأوي هو الآخر للتلفاز يشاهد ويتلقى ولا يتلكم .. وينتظر فراغ الجميع من مشاغلهم لكنهم حين يفرغوا منها ينصبوا إلى معابدهم في هواتفهم الغبية التي فرقت شمل الأسرة وأضعفت تواصلهم وقللت حديثهم إلى بعضهم .. ذاك الحديث العادي التلقائي المتواصل الذي يتعلم الطفل الصغير منه حروفه وكلماته ويتعلم الأشياء التي يصادفها في يومه ويتعامل معها في مرحلته .. فإذا فقد هذا الحديث وهذا التواصل كيف للطفل أن يتعلم شيئا ومن يصحح له نطقه ومن يعلمه الكلام .. انتبهوا