الوسطية ثوابت ومتغيرات / عبد الحليم قابة
كثيرا ما نسمع في زماننا مصطلحات لم نعهدها من قبل، مثل: الإسلام المعتدل، الإسلام الوسطي، الإسلام السياسي، الإسلام السلفي…؛ وكثيرا ما يحصل لدينا خلط بين ثوابت الدين ومتغيراته، وبين ما يخرج الإنسان من دائرة الهداية إلى دائرة الضلالة وما لا يُخرجه .
وخروجا من مسألة صواب هذه المصطلحات وخطئها، وجوازها وحرمتها، سعيا لوضع النقاط على الحروف، وإسهاما في حسن الفهم للإسلام، أقر حقائق كبرى، وأعرض عليكم رؤيا أرى أنها ميزان سليم لا يخيب، إن شاء الله، وأنها حلّ لمعضلة فكرية لها انعكاسات خطيرة على السلوك الفردي والاجتماعي إذا ما تُعومل معها برشد وعلم، ولا أظن أن متضلعا في فهم هذا الدين ومراتب الأحكام فيه يخالفني فيه، إن شاء الله .
فأقول وبالله التوفيق:
أولا: الكلام هنا موجه للمؤمن المسلم الذي يؤمن بمرجعية القرآن والسنة الثابتة والإجماع المسلّم، وأن الدين يؤخذ من هذه المصادر دون خلاف، أما غيرهم من غير المسلمين أو من الطوائف الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا واتخذوا مصادر أخرى لدينهم كالرافضة والقرآنيين وغيرهم أو من العلمانيين والمنحرفين الذين لا يسلمون بهذه المرجعية أو يربطونها بضلالات ما أنزل الله بها من سلطان كدعوى التاريخانية والأنسنة ونحوهما، فهؤلاء جميعا ومن وافقهم في مخالفة المعلوم من الدين بالضرورة وثوابت هذا الدين المجمع عليها دون خلاف، لسنا نقصدهم بهذا البيان؛ لأنهم لا ينتفعون بهذا الكلام، إنما يحتاجون إلى إثبات البدهيات وتقرير المسلَّمات، فمثلهم كمثل الملحد الذي لا يسلم لك عند الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع، لادعائه عدم الإيمان بذلك، وإنما ينفعه إبطال شبهة الإلحاد ومعالجة ما عنده من العناد، وإلى تقرير الأصول التي لا يختلف عليها عاقلان، ثم بعد ذلك ننتقل معه إلى إثبات حقائق الدين وهداياته.
ثانيا: مجموع أحكام ديننا (بعقائده وتشريعاته، ولا أقصد الآراء والأفكار والفلسفات)، فيمكن حصرها في دائرتين لا ثالث لهما:
– الأولى: دائرة الثوابت الصريحة، والقطعيات، واليقينيات، والمعلوم من الدين بالضرورة .
الثانية: دائرة المسائل المحتملة للخلاف (لحكمة أرادها الشارع) وقد وقع فيها – فعلا- الخلاف بين ثقات علماء الأمة ومجتهديها المعتبرين .
** فالدائرة الأولى: يدخل تحتها مثلا:
– أصول الاعتقاد كأركان الإيمان، وما يلحق بها كالإيمان بالجنة والنار ونعيم القبر وعذابه والميزان والصراط والجن، والمسيح الدجال، وكفر أهل الكتاب، وأنهم إذا ماتوا على ذلك – بعد قيام الحجة- من أهل النار خالدين فيها، وأن الله حرم الجنة على من مات مشركا، وأن الحسن ما حسنه الشرع وأن ما عده الشرع مفسدة لا يصبح مصلحة بحكم عقول بعض الناس، وغير ذلك من العقائد التي لا يخالف فيها إلا غير المسلمين، أو من وافقهم في ذلك من المنحرفين .
وكذا مثل أصول الأخلاق، كوجوب الصدق والأمانة والبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحريم الظلم والخيانة، شرب الخمر والتبرج، والقول على الله بغير علم، والكذب على رسول الله وعلى عباد الله، ونحو ذلك مما هو معلوم عند العالم والجاهل. وكذا مثل حجية السنة الثابتة بيقين والإجماع الثابت دون ريب .
فمثلا إن القرآن حجة قائمة إلى قيام الساعة، وأنه يُفهم في إطار لغة العرب التي نزل بها ولا يخضع فهمه للثقافات المتنوعة والمتغيرة، بل هي التي تخضع لحكمه، وإن عقول البشر تهدي إلى الشرع وتدل عليه لكنها لا تحكم عليه، وأنه يستحيل أن يكون في الشرع ما تحكم العقول جميعا باستحالته.
ومثل استحالة اجتماع أخيار الأمة في جيل من الأجيال فضلا عن أجيال متتابعة إلى زماننا، على ضلالة أو انحراف أو خطأ. ومثل استحالة دخول الخُلف والتناقض في كلام الله الصريح، فما مدحه الله فهو ممدوح وإن تواردت عقول العلمانيين على ذمه، وما ذمه الله فهو مذموم وإن اتفق المفتونون بزعماء الضلالة على مدحه .
وغير ذلك مما تواردت كتابات الثقات قديما وحديثا على عدّه مخالفا لما قطع به في الشرع، وأنه ثابت بيقين لا تزعزعه شبهات المستشرقين ولا المستغربين ولا المغرورين.
فهذه وما كان مثلها، أدلتها واضحة كالشمس في رابعة النهار، وحصل إجماع الثقات من العلماء والمجتهدين عليها، وهي تمثل جوهر ديننا وأصوله، وهي القاسم المشترك بين مدارس المسلمين وطوائفهم التي لم يبلغ بهم الغلو مبلغ الكافرين.
لذلك فكل من لم يخالف في هذه الدائرة، ولم يتمرد على شيء منها، ولم يعترض على الله ورسوله في شيء منها فهو على هداية ودراية، يؤخذ عنه العلم ويُسأل عن الدين لأنه مؤتمن عليه، وليس ممن يتطاول على هذه الساحة المحمية. بحجة حرية الفكر أو التنوير أو التجديد أو الفهم السديد أو نحو ذلك من الدعاوى العريضة التي تجلب كثرة المعجبين والمصفقين من المغفلين أو المستدرجين .
أما من خالف في شيء منها فقد حام حول حمى الكفر والعياذ بالله، لكنا لا نستعجل بالحكم عليه بذلك لسببين:
1- أن الحكم بالكفر خطير، فأمره إلى العلماء الأثبات وإلى القضاة الثقات، وليس لغيرهم ولو كان من أصحاب أعلى المراتب والشهادات.
2 -أن الحكم بالكفر على شخص معين تشترط له عندنا شروط صعبة ليس متيسرا معرفة توفرها جميعا في من سنحكم عليه .
فالأسلم – إذن – الاكتفاء بالحكم العام، ونكل أمر الخلق لخالقهم، إلا من أعلن كفره مجاهرا متبجحا كبعض الأغبياء قديما وحديثا، أو من كان عندنا في كفره برهان من الله لا إشكال فيه.
** الدائرة الثانية: دائرة المسائل الخلافية، ونقصد الخلاف الواقع بين المجتهدين والعلماء الثقات، وليس الخلاف خارج دائرة المعقول أو المقبول (كخلاف الكفار ومن يقول بمقولاتهم وخلاف الضلال من المنتسبين للإسلام الذين يخالفون فيما لا يحتمل الخلاف من قطعيات الدين وثوابته التي لا خلاف فيها) فهذه الدائرة يمكن تقسيمها إلى قسمين:
القسم الأول: خلاف معتبر عند العلماء، قوي؛ لقوة أدلة الطرفين أو تناظرها أو للثقة الكبيرة في قائله لدينه وسعة علمه أو لغير ذلك من الاعتبارات المرعية عقلا وشرعا.
مثال ذلك الخلاف في عدد تكبيرات الأذان وفي حكم صلاة العيدين وصلاة الوتر، وفي وجوب القضاء على المفطر نسيانا في رمضان، وفي حكم طواف الوداع، وفي بيع العربون، وفي بعض التعاملات الحديثة كبيع المرابحة، وحكم كشف وجه المرأة وسفرها إلى حجة الإسلام دون محرم، وغير ذلك من مسائل معروفة، الخلاف فيها قوي والأدلة محتملة .
فهذا القسم مجال سعة ورحمة من الله وتنوع اقتضته حكمة الله، فينبغي أن يعذر بعضنا بعضا فيه، وأن نعدّ كل مستمسك فيه باجتهاده أو بمدرسته ومذهبه، على هداية ورشد، بل نجتهد في الاستفادة من الخلاف معه في مزيد من القرب من الله، أو في مزيد من الرشد في إيجاد حلول لمشاكل عباد الله، بل في مزيد من التوفيق في قيادة الناس إلى الاستسلام لدين الله .
————————–
القسم الثاني: خلاف مأخذ أحد طرفيه أو أطرافه ضعيف أو نحو ذلك. لكنه قول معمول به عند بعض الفقهاء والمجتهدين بخلاف عمل جمهورهم وعامتهم.
————-
مثال ذلك: الخلاف في حرمة ربا الفضل، وفي اشتراط الإشهاد لوقوع الطلاق، وفي وجوب قضاء المتعمد لإخراج الصلاة عن وقتها، وجواز المعازف وحلق اللحى وغير ذلك مما هو عبارة عن أقوال تخالف ما عليه جمهور الفقهاء والمحدثين والمفتين، لكنها نُقلت عن عدول وثقات.
——
فهذه الدائرة الثانية كلها بقسميها لا تصل إلى مرتبة الدائرة الأولى، ولا ينبغي أن يُوالى ويعادى بسببها، بل ينبغي أن نوسع صدورنا فيها ونقبل الخلاف فيها وندع كل أحد وما عنده من العلم، ولا ننشغل بالنكير على الناس فيها .
إلا أننا في دائرة العمل والتعليم نفرق بين القسمين داخل الدائرة الثانية: فالقسم الأول مسائله ليست كمسائل القسم الثاني الذي نجتهد أن لا نتمسك فيه بالأقوال الضعيفة معرضين عن الأقوال القوية التي عليها جماهير الأمة، ومصرّين على الانفلات من ظواهر نصوص الشرع وما استقر عليه مسلك جمهور الأمة، بحجة الخلاف .
مع ملاحظتين مهمتين هنا، وهما :
1- أن مرتبة التعليم غير مرتبة الإنكار، فلا بد من التفريق بينهما .
2 – أن بعض الأقوال الضعيفة قد تتقوى في ظروف معينة لاعتبارات شرعية معتبرة، كعموم البلوى، وأخذ الحكام والقضاة بها لمصلحة معتبرة أو لدفع مفسدة متعينة، ونحو ذلك مما يعرفه أهل الاختصاص .
والخلاصة:
إذا وجد أحدكم كاتبا لم تجتمع الأمة على عدالته وثقته وعلمه، فليخضع كلامه لهذا الميزان، فإن وجده يهدم صرح قواطع ديننا بأيّ حجة وأيّ أسلوب، فاعلموا أنه ممن قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)، وأنه يدخل تحت قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:257].
أما من التزم دعوة الأنبياء ومنهجهم فيشمله قوله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البقرة:257]، وقوله تعالى:{قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف: 108].
نسأل الله الهداية والثبات وحسن العاقبة.
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8].
بقلم/ د.عبد الحليم قابة