ساقي القوم آخرهم/ محمد الصالح الصديق
كنا على مائدة الطعام في منزل أحد الأساتذة بمناسبة إحرازه على شهادة الدكتوراه، فجرى هذا الحديث على لسان أحد الحضور “ساقي القوم آخرهم” فسألني إذا كان حديثا صحيحا؟
فقلت له: إنه حديث حسن صحيح رواه الترمذي، فقال: هل من تعليق عليه لنجمع بين الطيبات المادية، والطيبات الروحية؟ فقلت:
هذا الحديث في آداب ساقي الماء ونحوه مما يُسقى من أنواع المشروبات، ومثله ما يفرق على جمع من الناس من مأكول، أو مشموم، أو ملبوس، أو غير ذلك. فالأدب أن يكون الساقي، أو الموزع آخر من يتناول نصيبه من الموزع.
وفي فيض القدير للعلامة المناوي نقلا عن ابن العربي قوله: “وهذا أمر ثابت مادة وشرعا، وحكمته ندب الإيثار، فلما صار في يده ندب له أن يقدم غيره لما فيه من كرم الأخلاق، وشرف السليقة وعزة القناعة”.
وقد اعتاد الملوك والأمراء أن يشرب الساقي قبل خشية أن يكون فيه السم، ويذكر أهل المعرفة أن الساقي يسقى أولا كبير القوم ثم من عن يمينه، ثم الباقي، ثم يشرب، وهذا أبلغ للقيام بحق الخدمة، وحفظ الهمة، وأدعى إلى المحبة والمودة.
وقرر أهل العلم في ظلال هذا الحديث أن كل من ولي شيئا من أمور الناس، فالواجب تقديم مصلحتهم على مصلحته وإيثارهم على نفسه.
وليس هناك شك في أن من يتواضع، ويخدم غيره في أي مجال من مجالات الحياة، جدير بكل تقدير واحترام، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: “سيد القوم خادمهم”، لأن السيد هو الذي يفزع إليه الناس في النوائب، ويلجؤون إليه في المحن والخطوب، فيواجه الظروف الصعبة، ويتحمل الأثقال عنهم، فلما تحمل عنهم الأعباء، وقام بما لا يطيقونه كان سيدهم وكان خادمهم، وقد أنشد البيهقي في هذا النسق:
إذا اجتمع الإخوان كان أذلهــــم لإخوانه نفسا أبرّ وأفضلا
وما الفضل في أن يوثر المرء نفسه ولكن فضل المرء أن يتفضلا
والواقع أن الذي ينهض بهذه المهمة، مهمة الخدمة والإيثار، ويخفف عن الناس آلامهم ومتاعبهم هو الصديق الحق، والأخ الوفي، ولذا قال الشاعر:
إن أخا الإنسان من يسعى معك ومن يضر نفسه لينفــــــعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك