الحيـــاء… خُلُــق الإســـلام

د. يوسف جمعة سلامة*/
أخرج الإمام الترمذي في سننه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اسْتَحْيُوا مِن اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَسْتَحْيي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الاسْتِحْيَاءَ مِن اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَتَتذكَّر الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ).
هذا الحديث أخرجه الإمام الترمذي في سُنَنِه، في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم -.
إِنَّ ديننا الإسلامي الحنيف يدعو إلى مكارم الأخلاق، فقد دعا إلى كلّ فضيلة ونهى عن كلّ رذيلة، ومن المعلوم أنّ نبيّنا – صلّى الله عليه وسلّم – جاء ليرشد البشرية إلى الخير، كما أخذ بأيديهم من الظّلمات إلى النّور، ومن الرذائل إلى الفضائل.
وعلى رأس الصفات الكريمة والمناقب الحميدة التي تدلّ على عُمْق الإيمان وطهارة القلب وصفاء النفس: صفة الحياء، التي ما وُجدت في شيء إلا زانته، وما فُقِدت من شيء إلا شانته، فالحياء صفةٌ عظيمة وخُلُق كريم، حَرِيٌّ بكلّ مسلم أن يَتَّصِفَ به في كلّ حين، ولله درّ القائل:
إذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي
وَلَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا تَشَـــــاءُ
فَلا وَاَللَّهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ
وَلا الدُّنْيَا إذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ
يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ
وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ
لقد جمع رسولنا -صلّى الله عليه وسلّم- أطراف الحياء في الحديث الشريف السابق، فالحياء الحقيقي الذي يدعو إليه رسولنا -صلّى الله عليه وسلّم – هُوَ أنْ يحفظ الإنسان حواسه، يحفظ سمعه وبصره ولسانه، فلا يستمع إلى غيبة أو نميمة، ولا ينظر إلى ما حرّم الله ورسوله، ولا يتحدّث إلا بخير، ويحفظ بطنه فلا يُدْخِل إليه حرامًا، ويحفظ فرجه فلا يرتكب فاحشة، ويحفظ سائر أعضائه.
فضل خُلُق الحياء
إِنَّ الحياء صفة محمودة في شريعة الإسلام، حيث يُثْني عليها رسولنا محمد – صلّى الله عليه وسلّم– ويأمر أصحابه بالتّخَلّق بها، فقد ذكرت السّنّة النبوية الشريفة فضل الحياء في عددٍ من الأحاديث النبوية، منها:
•عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ).
• عَنْ أَنَسٍ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلا شَانَهُ، وَما كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلا زَانَهُ).
•عن ابن عمر- رضي الله عنهما -، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الْحَيَاءُ والإِيمَان قُرَنَاءُ جميعًا، فإذا رُفِعَ أحدهما رُفِعَ الآخر).
•عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَخُلُقُ الإِسْلامِ الْحَيَاءُ).
إِنَّ الحياء شُعبة من شُعَب الإيمان كما جاء في الحديث الشريف عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ)، وهوَ يبعثُ في النفس معاني الخير كما جاء في الحديث الشريف عن عمران بن حُصَين – رضي الله عنهما – قال: قال النبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -: (الْحَيَاءُ لا يَأْتِي إِلا بِخَيْرٍ) وفي رواية: [(الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ) قال: أَوْ قَالَ: (الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ)] (8)، وجاء في حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الْحَيَاءُ مِن الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنْ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ).
ورحم الله الإمام الشافعي الذي قال:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا سَلِيمًا مِنَ الأَذَى
وَحَظُّكَ مَوْفُورٌ وَعِرْضُكَ صَيِّنُ
لِسَانكَ لا تَذْكُــــرْ بِـــهِ عَـــــــوْرَةَ امْرِئٍ
فَكُلُّكَ عَـوْرَات وَلِلنَاسِ أَلْسُـــــنُ
وَعَيْنـك إِنْ أَبْـــدَتْ إِلَيْكَ مَسَاوِئـــــــاً
فَصُنْهَا وَقُلْ يَا عَيْنُ لِلنَّاسِ أَعْيُــنُ
وعَاشِرْ بِمَعْرُوفٍ وَسَامِحْ مَنِ اعْتَـــدَىَ
وَفَـــارقْ وَلَكِنْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
حياؤه صلى الله عليه وسلم
إِنَّ حياة رسولنا – صلّى الله عليه وسلّم – تُعَدّ نِبْرَاساً ومنهاجاً لبناء الشخصية المسلمة التي تَتَّسِمُ بالحق والخير والسموّ والاعتدال، فعظمته – صلّى الله عليه وسلّم – تُشرق في جميع جوانب حياته ، ومن المعلوم أن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم– كان أشدَّ حياءً من العذراء في خِدْرِها، كما جاء في الحديث الشريف عن أبي سعيد الخُدْري – رضي الله عنه – قال: (كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَشَدَّ حَيَاءً مِن الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا)، كيف لا؟ وقد وصفه الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم بالحياء، كما جاء في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ }.
فما أعظم أن نتخلَّق بِخُلُقِه – صلّى الله عليه وسلّم – ونَتَأَسَّى بِهَدْيه وَسُنَنِه،كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، فإذا كان الحياء خُلُق الإسلام فما أجمل أن نَتَخَلَّق به، لأنه يُضفي على الفؤاد نوراً يمشي به صاحبه في الناس، فلا يسقط في عَثْرة ، ولا يقع في زَلّة ، ولا ينحرف عن الطريق السّويّ.
رَجُلٌ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلائِكَة
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عَائِشَةَ- رضي الله عنها-، قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِي، كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ، أَوْ سَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَوَّى ثِيَابَهُ – قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلا أَقُولُ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ – فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ : دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تَهْتَشَّ لَهُ وَلَمْ تُبَالِهِ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسْتَ وَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ، فَقَالَ: أَلا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلائِكَةُ)، وفي رواية: (إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ، أَنْ لا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ).
قال المناوى: «مقام عثمان مقام الحياء، والحياء فرعٌ يتولَّد من إِجلال من يشاهده ويعظم قدره، مع نقص يجده في النفس، فكأنه غلب عليه إِجلال الحق تعالى، ورأى نفسه بعين النّقص والتقصير، وهما من جليل خصال العباد المُقَرَّبين، فَعَلَتْ رتبة عثمان كذلك، فاستحيتْ منه خلاصة الله من خلقه، كما أنّ من أحبّ الله أحبّ أولياءه، ومن خاف الله خاف منه كلّ شيء».
ومن المعلوم أن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – كان شديد الحياء، كما جاء في الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ( أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ بن عفّان،…).
هذا هو ديننا الإسلامي الحنيف الذي يُرشدنا إلى وجوب التّحلّي بخُلُق الحياء، فالحياء من مكارم الأخلاق، وعندما نتمسّك بالأخلاق الفاضلة فإنها تعود علينا بكلّ خير، فالرسالة الإسلامية جاءت من أجل إتمام مكارم الأخلاق لقوله -صلّى الله عليه وسلّم -: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ).
وصلّى الله على سيِّدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
* خطيب المسـجد الأقصى المبـارك
وزير الأوقاف والشئون الدينية السابق
www.yousefsalama.com