وراء الأحداث

كوميديا سوداء في البيت الأبيض!

أ. عبد الحميد عبدوس /

كاد الفصل الهابط من الكوميديا السوداء أو المهزلة التاريخية الذي جرت وقائعه في البيت الأبيض يوم الثلاثاء الماضي (15سبتمبر 2020) أن يكون «لا حدث» في خريطة الصراع الفلسطيني الصهيوني رغم الضجة الإعلامية التي حاول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وشريكه في الجريمة رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إضفاءها على حفل توقيع اتفاقيتي التطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين قصد بعث الحماس والحيوية في صفوف القاعدة الانتخابية لكل واحد منهما، فحفل تطبيع العلاقات بين دولتين من الخليج ودولة الاحتلال الصهيوني الذي زعم ترامب بأنه جاء لتغيير التاريخ، لم يكن في حقيقة الأمر سوى كشف للتحالف السري وترسيم لعلاقات دبلوماسية كانت تمارس منذ سنوات في السر وتحت الطاولة بين دولة الاحتلال الصهيوني وهاتين الدولتين.
لقد ادعى وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش أن الإمارات كسرت الحاجز النفسي بين العرب وإسرائيل، ولكن ما وقع كان يشبه واقعة انتهاك المحارم في العلن والمجاهرة بالفاحشة، فقد صرح السفير الإسرائيلي في ألمانيا أن العلاقة مع الإمارات بدأت قبل 26 عاما، وباتت اليوم علنية بعد اتفاق التطبيع الذي عقد في واشنطن، أما البحرين فقد احتضنت في شهر جوان من العام الماضي (2019) ما سمي «ورشة المنامة» التي مثلت الشق الاقتصادي من خطة «صفقة القرن» الذي ترأس أعمالها صهر ومستشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اليهودي الصهيوني جاريد كوشنر، كما حضرت المؤتمر إسرائيل بوفد رسمي، بقيادة المسؤولة في وزارة الخارجية الإسرائيلية ورئيسة إدارة مكافحة الإرهاب فيها، وذلك رغم أن البحرين كانت قد التزمت قبل أقل من شهر من انعقاد ورشة المنامةـ على غرار كل الدول العربية ـ في مؤتمر القمة الإسلامية الذي عقد في الرياض في نهاية شهر ماي2019 بـ «رفض أي مقترح للتسوية السلمية، لا يتوافق ولا ينسجم مع الحقوق المشروعة غير القــــابلة للتصــرف للشــعب الفلسطينــي وفـق ما أقـرته الشرعية الدولية، ولا ينسجم مع المرجعيات المعترف بها دولياً لعملية السلام وفي مقدمتها القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة».
هذا الكذب والنفاق السياسي البحريني أكده صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد ساعات من توقيع اتفاقيتي التطبيع، حيث صرح لقناة الجزيرة مساء الثلاثاء 15سبتمبر 2020 قائلا: «كنا على اتصال مع البحرينيين، وتحدثنا مع إخواننا البحرينيين وأصدر الملك بيانا قال فيه إنهم سيلتزمون بمبادرة السلام العربية، ولن يكون هناك تطبيع، كل هذا كان قبل أسبوع».
لقد شكل توقيع اتفاقيتي التطبيع بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين بلا شك طعنة في ظهر القضية الفلسطينية، ولكنه لم يكن بنفس الأهمية والوزن الاستراتيجي الذي حاول المسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون أن يسوقوه لقواعدهم الانتخابية وللإعلام المساند للاعتداء على حقوق الفلسطينيين، فلم يشكل توقيع دويلتين خليجيتين لاتفاق العار والخيانة مع رئيس حكومة الليكود الإسرائيلية اليمينية بداية النهاية للصراع العربي الإسرائيلي، كما زعم جاريد كوشنر ولم يكن فجرا جديدا للسلام كما صرح بنيامين نتنياهو، فعلى سبيل المثال، اعتبرت أندريا ميتشيل المذيعة في قناة «أم سي ان بي سي» الأمريكية ما وقع في البيت الأبيض بأنه «يفتح أبواب التجارة والسياحة والسفر ولكنه ليس سلاماً في الشرق الأوسط».!
لعل من الخداع والتضليل والتلاعب بالمفردات أن يطلق على عملية توقيع اتفاقية دبلوماسية بين دول لم تدخل أبدا حربا مسلحة بين بعضها البعض «عملية سلام»، فضلا عن أن ينتظر منها فتح أبواب السلام في منطقة ما زال فيها المتخاصمون الحقيقيون يخوضون صراعا مفتوحا منذ عقود من الزمن، والدليل على ذلك أنه في الوقت الذي كان رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يلقي كلمته في البيت الأبيض خلال حفل توقيع ما سمي «باتفاق السلام» دوت صفارات الإنذار في مدينة أشدود المحتلة وكانت صواريخ المقاومة الفلسطينية تذكر العالم بأن أصحاب القضية الحقيقيين في إنهاء الصراع عندما تتوفر شروطه هم الفلسطينيون الوازحون تحت وطأة الاحتلال والذين لم يوكلوا لا الإماراتيين ولا البحرينيين للحديث باسمهم أو توقيع اتفاقية سلام نيابة عنهم، وقد تولت حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس) إيضاح هذه الحقيقة بالقول: «بينما كان البعض يريد تغييب قضية فلسطين عبر توقيع اتفاقات التطبيع مع الاحتلال في البيت الأبيض، نثبت اليوم أن قضية فلسطين ستظل حية وحاضرة بفعل ثبات شعبنا الفلسطيني على أرضه وتضحياته العظيمة، وبفعل بسالة المقاومة وعنفوانها».
على خلاف الحدث السابق، كان توقيع اتفاقية سلام في كامب ديفيد بين الرئيس المصري أنور السادات ورئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي مناحيم بيغن في 1978 بمثابة زلزال سياسي أخل بشكل خطير بموازين القوى بين إسرائيل والعرب، ووضع عائقا كبيرا في طريق المواجهة العسكرية بين العرب وبين الكيان الصهيوني المحتل، إلا أنه رغم أهمية مصر وثقلها في جبهة الصراع العربي الإسرائيلي، فلم يجلب تطبيعها مع إسرائيل السلام الحقيقي والكامل لمنطقة الشرق الأوسط، ولم يوقف سلسلة الحروب بين العرب وإسرائيل، فقد خاضت المقاومة اللبنانية حربا مع إسرائيل من 1985 إلى 2000 انتهت بنصر المقاومة وطرد المحتل الإسرائيلي من أغلب مناطق جنوب لبنان، ثم خاض حزب الله وحلفاؤه سنة 2006 حربا ضروسا ضد الغزو الإسرائيلي وتوجت بإسقاط مفهوم الردع العسكري الإسرائيلي.
كما خاضت المقاومة الفلسطينية ثلاث حروب باسلة داخل فلسطين المحتلة ضد إسرائيل. جرت الأولى بين حماس وإسرائيل من27 ديسمبر إلى 18 جانفي 2008، أسمتها إسرائيل «الرصاص المصبوب»، فيما أطلقت عليها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) اسم «حرب الفرقان»، وجرت الحرب الثانية التي أسمتها إسرائيل «عامود السحاب»، فيما أسمتها حركة حماس «حجارة السجيل»، من 14 إلى 22 نوفمبر 2012، ثم كانت الحرب الثالثة وهي أطول الحروب وأكثرها شراسة والتي استمرت 51 يوما من 7 جويلية 2014 إلى 26 أوت 2014، أسمتها إسرائيل «الجرف الصامد»، فيما أطلقت عليها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) اسم «العصف المأكول».
أما الشريك الأساسي في حرب أكتوبر 1973 التي ادعى الرئيس المصري الراحل أنور السادات أنها ستكون آخر الحروب بين العرب وإسرائيل، أي دولة سوريا فهي لا تزال رسمياً في حالة حرب مع إسرائيل التي مازالت تحتل جزءا من التراب السوري في مرتفعات الجولان ولذلك تشتعل من حين لآخر مناوشات عسكرية محدودة بين البلدين المتجاورين. يضاف إلى كل هذا الصراع الساخن بين العرب وإسرائيل، ذلك العداء السافر بين جمهورية إيران الإسلامية وإسرائيل، والتي يعتقد البعض أن السبب الرئيس لتوقيع اتفاقيتي التطبيع بين الإمارات والبحرين وإسرائيل هو ارتماء الدويلتين الخليجيتين تحت مظلة الحماية العسكرية الإسرائيلية لمواجهة إيران، فكيف يمكن اعتبار ما حدث من مهزلة ذليلة في البيت الأبيض بمثابة «يوم تاريخي للسلام في الشرق الأوسط»؟
لا يتردد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحليفه الصهيوني بنيامين نتنياهو في التأكيد على أن هناك دولا عربية أخرى ستلتحق قريبا بقطار التطبيع، وإذا لم يكن هذا التوقع مستبعدا في زمن الانبطاح الرسمي العربي وهرولة بعض أنظمة العار العربية نحو التطبيع مع المحتل الإسرائيلي خضوعا لضغوط إدارة الرئيس ترامب واتقاء لشر هذا الخادم المخلص للمصالح الصهيونية، إلا أن ما يبقى ثابتا ومقلقا للمحتلين الإسرائيليين وحماتهم الأمريكيين ويظل شوكة في حلوقهم، هو أن الحكام غير خالدين في مناصبهم لأنهم يأتون ويذهبون ويتساقطون، وتبقى الشعوب العربية والإسلامية في غالبيتها رافضة للتطبيع ومتمسكة بقيم أمتها وثوابت دينها التي تُحَرِّم موالاة الأعداء والركون إلى الظلمة، والدليل أنه بعد مرور 42 سنة على توقيع اتفاقية السلام بين أكبر دولة عربية هي مصر وإسرائيل، وانخراط بعض الأنظمة العربية في محاولة تغيير هوية الأعداء باستبدال إيران بإسرائيل وتغيير خريطة الصراع في الشرق الأوسط من صراع بين محتل إسرائيلي غاصب إلى صراع إسلامي ـ إسلامي بين العرب وإيران، أو بين السنة والشيعة، مازالت الجماهير العربية والإسلامية في غالبيتها تعتبر التطبيع مع إسرائيل عارا ومذلة وخيانة، وتصرعلى أن استعادة الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني وتحرير القدس المحتلة هو الواجب القومي والديني الذي لا يسقط بالتقادم.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com