تجديد دروس الجمعة/ محمد مكركب
لتحقيق المقاصد الجليلة واجتناب المنهجية الكليلة من الأعمال الحميدة التي لازمها الأئمة في المساجد يوم الجمعة، في الجزائر إلقاء درس تفقيهي تعليمي، قبل وقت صلاة الجمعة. فمنهم من نظر إلى هذه الدروس على أنها سنة حسنة، انتهجها الأئمة الدعاة في الجزائر، وحققت فوائد علمية جليلة، وهي كذلك من السنن الحسنة، والأعمال الهادفة، كوسيلة معرفية، لنشر العلم وفقه العبادات بالخصوص، خاصة وأنها مناسبة لاجتماع يوم الجمعة. ومنهم من نظر إلى هذه الدروس بنظرة قاصرة، فاعتبرها مخالفة للسنة، على أنها لم تكن في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، وذلك لعدم فهم الأحاديث، والآثار الواردة في الموضوع. غير أن هدف النقد في مقالنا هذا ليس لترجيح رأي على آخر. إنما لبيان الطريقة الناجعة، والأسلوب المقترح لتقديم هذه الدروس، ذات القيمة العظيمة.
كثيرة هي الأعمال العظيمة في ذاتها، ومقاصدها، ولكنها تفقد معانيها، وتقل فوائدها، وتُنْتقد من غير أهلها، إذا وقع خلل في الطريقة أو في أسلوب الأداء. ومنها: دروس الجمعة. فإن مجالس العلم في بيوت الله تعالى من الفضائل الحميدة، والأعمال الجليلة، بل إن كراسي العلم فرض كفاية على علماء الأمة، ولكن دروس الجمعة صارت في كثير من المساجد قليلة القيمة، ومُمِلَّة، لا لذاتها، إنما لسوء تقديمها، ولضعف الأسلوب وخطأ المنهجية، وبدلا من أن تكون سندا وعناصر إحياء للخطبتين وزيادة في ترغيب الناس في العلم، صارت تؤثر سلبا على الخطبتين، وعلى المقبلين يوم الجمعة للصلاة. فكان لابد من وضع هذه الدروس في ميزان النقد والتجديد؛ وكذلك خطبة الجمعة في جلسة أخرى إن شاء الله تعالى.
1 ـ القيمة الدينية والمعرفية لمجالس العلم في المساجد:
لا أحد ينكر أن المساجد بنيت للعبادة والعبادة بالعلم، وأن أقدس منابر العلم في المساجد، بين كرسي العلم، والخطب المنبرية. وكذلك كان المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وفي زمن كل الصالحين إلى يومنا هذا.
ففي صحيح البخاري. عن أبي واقد اللّيثي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما أحدهما: فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر: فجلس خلفهم، وأما الثالث: فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه] رواه البخاري.كتاب العلم.رقم:66، وفي الحديث أيضا: [من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله] رواه البخاري. كتاب العلم.رقم:71.
وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [.. وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده]. رواه مسلم. كتاب الذكر والدعاء.رقم:2699.
2 ـ منهجية الدروس التفقيه في المساجد:
من بين أنواع الخلل الذي تسبب في انتقاد درس الجمعة من قبل بعض الدعاة، وأئمة المساجد، هو أنهم يُقَدِّمُون هذه الدروس بأسلوب موعظة الخطبة، لا بالأسلوب العلمي التحليلي التدريسي. فالواحد منهم وهو يلقي الدرس التفقيهي في حلقة العلم قبل وقت خطبة الجمعة كأنما هو في خطبة الجمعة، يلقيه بنفس الأسلوب الوعظي الخطابي. ولما كان الخلل الآخر، وهو تقديم هذه الدروس في وقت قريب جدا من صلاة الجمعة، إذ بعدها مباشرة يأتي الأذن، ثم الخطبتان، صار أغلب المصلين ومن حيث لا يشعرون يشكون طول الخطبتين، ويسأمون، وينتقدون الخطيب، مهما ركز وأوجز، ومهما شرح وأوضح، ومها فسر واختصر. والسبب الدرس المتزامن مع الخطبتين، وتكرار الأسلوب الوعظي. وسأبين هذا الخلل في الباب الموالي.
منهجية إلقاء درس الجمعة:
1/ التزام المنهجية الأكاديمية العلمية البحتة، إما من الجانب الشرعي الفقهي، أو المصطلحات، أو درس في فقه اللغة وأساليبها، أو التاريخ، والجغرافيا، أو علم النفس، والاجتماع. لما يناسب حاجة المجتمع، استدلالا بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والمبادئ والنظريات العلمية.
2/ اتباع الطريقة الحوارية بين الأستاذ المدرس وبين الحاضرين، وأن يكون الشرح بالوسائل العلمية المتطورة، بالشاشة والأشرطة المصورة، والوثائق، والخرائط.
3/ التركيز على تمكين المسلمين الذين يأتون المساجد من الخطاب اللغوي، وفهم المصطلحات، ولغة الخطاب.
4/ اتباع مراجع علمية معلومة، واتخاذها معالم للمقاصد. كحديث من مرجع معتمد، أو علم من علوم القرآن، أو نظرية في علم النفس، أو قاعدة طبية من كتاب. أو معلومة فلكية للتطبيق على آية قرآنية.
5/ أن تقدم هذه الدروس من متخصصين في شتى العلوم، يمكن من طرف طبيب، أو مهندس، أو عالم نفساني، أو باحث في التاريخ، أو أديب، أو فلكي، وغير ذلك.
3 ـ الوقت المناسب لإلقاء درس الجمعة:
إن الوقت المناسب لإلقاء درس الجمعة أن ينتهي بنصف ساعة على الأقل قبل دخول الوقت الشرعي لصلاة الجمعة، حتى يكون فصل كاف لأن يستعد الناس لصلاة لجمعة بخطبتيها وحدها، وحتى لا يكون الدرس العلمي مرتبطا بوقت الصلاة، ولا علاقة له بالتابعية للخطبتين. فدرس الجمعة مستقل بذاته ككرسي علم، للمقاصد المذكورة أعلاه، وتقام هذه الدروس بعد ضحى يوم الجمعة. لكون يوم الجمعة يوم عطلة أسبوعية لغالبية المواطنين في الجزائر وفي كثير من البلدان الإسلامية، ولو كان الناس يعملون في وظائفهم يوم الجمعة، ويأتون لصلاة الجمعة فقط. لكان المقترح أن يكون وقت الدرس، أي كرسي العلم ليوم الجمعة من المغرب إلى العشاء. ولا يكون وقت الجمعة. أما وأن يوم الجمعة كما هو في الجزائر يوم عطلة أسبوعية، فناسب أن يكون عند قدوم المبكرين إلى الجمعة من أصحاب الدرجات الأولى في الأجر، ليجمعوا بين الحسنيين في الأجر، والعلم.
يحسن أن تثبت كراسي العلم كل يوم جمعة من الساعة الحادية عشرة إلى الثانية عشرة. بالمنهجية العلمية، في كل المساجد الجامعة الكبرى المركزية.
4 ـ أمثلة من موضوعات دروس الجمعة:
1/ شرح وتحليل المصطلحات الشرعية والعلمية. (مفهوم المصطلح، مدلول المصطلح، التعامل معه، والعمل به، أمثلة وتطبيقات من المراجع الأساسية) كمصطلح الدين، والإسلام، والإيمان، والشريعة، والفقه. والأمة، والمجتمع، والوطن. والشورى. والحديث، والسنة، والمرجعية. وغيرها من المصطلحات، التي يطلب من العامة والخاصة معرفتها، حتى إذا ما خوطب بها علم معناها، وهذا هو الهدف.
2/ مبادئ، وقيم، كعلم وليس كمواعظ، مثال: قيمة الحوار، قيمة النظافة، قيمة الإتقان، قيمة المواطنة، والجوار ومبدأ التكافل…إلخ.
3/ دراسة كتاب هام لتنمية ثقافة المسلم.
4/ منهجية المطالعة.
5/ أركان بناء الأسرة، وكموضوع الوقاية من الخصومات وعلاج أسباب الطلاق.
6/ قواعد في المعاملات: التجارية، (قواعد في البيع والشراء) المعاملات الإدارية، كالعقود، والتوثيق. المعاملات القضائية، كآداب وضوابط وأحكام حل النزاع …إلخ.
7/ سنة التنوع والتكامل بين الرجال والنساء.
8/ الميراث، وغير ذلك. واسمع ما جاء في خطبة لعمر بن عبد العزيز رحمه الله.[إن للإيمان فرائض، وشرائع، وحدودا، وسننا، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها] ووجه الاستدلال: [فسأبينها لكم حتى تعملوا بها] وأن يكون التعليم بالحوار، وتدبر هذا المثال. عن أنس بن مالك، قال: “بينما نحن جلوس مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، دخل رجل فقال لهم: أيكم محمد؟ والنبي صلى الله عليه وسلم متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ. فقال الرجل: للنبي صلى الله عليه وسلم: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك؟ فقال: [سل عما بدا لك] فقال: أسألك بربك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: [اللهم نعم]. قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: [اللهم نعم] قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: [اللهم نعم]. قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [اللهم نعم] فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة”.
وما أجمل أن تكون موضوعات هذه الدروس للتركيز أكثر على تدبر القرآن الكريم، بمنهجية أكاديمية علمية واضحة للخاصة والعامة، وخاصة دراسة الآيات المحكمات، نعم الآيات المحكمات التي هي آيات أحكام الشريعة، بدراسة تدبرية علمية شرعية فقهية، وكذلك الأحاديث النبوية التي عليها مدار فهم توجيهات النبي عليه الصلاة والسلام في تبيان التدين الصحيح.
دروس يوم الجمعة في المساجد تقتضي وبإلحاح من المهتمين بالدعوة الإسلامية، ونشر الوعي الثقافي، والتفقيه، أن يعطوها حقها من الدراسة والتقويم، من حيث البرمجة، والمنهجية، والوقت. فهناك ظروف تتغير، ووسائل تتطور، وأذهان وفهوم تتطلب الإقناع رجاء الاقتناع، وللتعامل مع ما يجري في العالم من أنوع النزاع والصراع.كما يجب أن يعمل العلماء الدعاة على تجديد أسلوب منهجية خطبة الجمعة، (خطبة الجمعة بين ثوابت الشرع ومقتضيات التجديد). ﴿وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾[النحل:9].