القرآن مفتاح التغيير لجيل الصحابة ولسائر الأجيال1

أ.د. مسعود صحراوي
قال الوليد بن المغيرة المخزومي حين سمع القرآن الكريم من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم (وكان يعرف، فيما يُروى، القراءة والكتابة مطلعا على شيء من ثقافات الشعوب المجاورة للعرب): -“والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً؛ ما هو من كلام الأنس ولا من كلام الجن؛ والله إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لَمُثمِر، وإنَّ أسفَلهُ لَمُغدِق، وإنّه يعلو ولا يُعلى عليه”.
لم يكن الإسلام لينتشرَ ويَعمَّ الجزيرة العربية في ظرف زمني قياسي، ويعتنقَه أهلها ثم يجاهدوا في تبليغه جهادا كبيرا- بعد أن أسس الرسول عليه الصلاة والسلام القاعدة الرسالية الجديدة التي ستنهض بأعباء الدعوة والدولة بعد وفاته- فحَمَلتْه هذه القاعدة الرسالية نورا وهداية إلى المراكز الحضارية في وسط العالم القديم فبُدّلت الأرضُ غيرَ الأرض في ظرف زمني وجيز أيضا… لم يكن ذلك التحول التاريخي ليحدث لولا أنَّ سرّا ربانيا لطيفا أُودِعَ نفوسَ المؤمنين الأولين وخالط قلوبهم بعد أن سمعوا رسول الله يتلو عليهم هذا الكتابَ المبارك، فتفاعلوا معه واستجابوا له وحملوه عن إيمان وحب بفعل ما ضمّنه الله وأودعه من خصائص فريدة: بما فيه من “رُوح”، و”نور”، ومن “طاقة مغناطيسية” جاذبة، فهو في ذاته حقل مغناطيسي جاذب أو بعبارة إخواننا الفيزيائيين (Champ magnétique attractif) يجذب إليه العقول والقلوب، فترتاح إليه وتطمئن، وتستروح برَوْحه وبما فيه من روعة ورهبة تهتز لها النفوس، بل بما يكتنفه من نفحات الربوبية وما يغشاه من جلال الألوهية… وما يحتويه من ملاطفات تتلطف بالضمير الجاهلي الوثني لتوقظه أحيانا، وما فيه من قوارع وزواجر تلسعه أحيانا أخرى…
إن هذا الكتاب المبارك هو جهاز الإمداد بتلك الطاقة القوية المؤثرة، هو الذي يشع نوره و”رُوحه”، وتسري “كهرباؤه” من جزالة كلماته الملهِمة، ومن تصويراته البديعة، ومن جُمَلِه وآياته وسوره، فهو الغالب على كل حديث بسحر بيانه، وبنظمه وتركيبه، وقوة حجاجه وإقناعه، وتبكيت خصومه، وكثافة معانيه، وجمال مبانيه، وقد فعلت تلك الخصائص فعلها عند المؤمنين الأوائل…تركت أثرا هو الاهتزاز الذي سماه “قشعريرة”، إنها قشعريرة واهتزاز بفعل سريان “كهرباء” الذكر العليّ الحكيم، المهيمِن، الذي تخشع وتتصدّع منه الجبال… {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}[الحشر: 21] … إنه القرآن المتعالي في رحمة، القوي في لين، المنزَّلِ من عالَم الأمر في يسر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}… وإذا كانت الجبال تخشع وتتصدع منه فلا غرو أن يحدث في نفوس الناس ما هو مثله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ…}[الزمر:23] . لقد قلَبَ حياة السابقين الأولين رأسا على عقب، أعطى وجودهم معنى، حوّلهم من اللامعنى إلى المعنى، بعد أن هيمن هذا “الروح” الرباني على كيانهم وسرت هذه الكهرباء في خبايا نفوسهم، وتسللت إلى جوانح الصدور، ودخلت حشاشة القلوب!
وقد ورد في سورة مريم كلامٌ في هذا المعنى عن الأمم السابقة {…إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً * فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} وفي سورة الإسراء {… إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً…} (إلى أن قال): {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ…}، وأما عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فقد روى عروة بن الزبير عن أسماء بنت أبي بكر: “كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قُرئ عليهم القرآن تدمَع أعينهم وتقشعرّ جلودهم”./ فسبحان الله العظيم منزّل هذا الكتاب الكريم… ذلك أن لهذا القرآن مداخل ومسارب ومسارات يتغلغلُ منها إلى نفوس المتلقين… ثم يبسط سلطانه الغالب وبيانه الساحر ونوره الساطع، بشرط أن يقبلوا عليه بلا خلفيات إيديولوجية، أو موانع عنصرية، أو انحرافات أخلاقية تابعة للهوى صارفة عن الهدى، أو أنانيات طاغية…
ما الذي حدث في تلك المرحلة الأولى من البعثة المحمدية؟ كيف جرى ذلك التحول الوجودي العميق وكيف تمّ ذلك البناء المجتمعي المتين؟ كيف حوّل القرآنُ الكريمُ والتربيةُ النبويةُ المُبصِرةُ الحكيمةُ الرجلَ العربي الجاهليَّ الوثنيَّ، دائرةَ اهتماماتُه – في الأغلب الأعم -على الأنا الضيق الذاتي أو القبلي… حوّله رجلا مؤمنا مسلما شهما متآلفا ودودا منسجما مع الآخرين واسعَ الأفق غزيرَ العطاء الإنساني؟ كيف أخرجهم الدين الجديد من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن ظلم الأديان وتحكمِ ملوكها ورهبانها وأحبارها! إلى عدالة الإسلام… كيف حول حياة أولئك السابقين الأولين من اللامعنى إلى المعنى، ومن العبث الوجودي إلى الجدية الرسالية، ومن الضبابية إلى الوضوح، ومن الفوضى إلى النظام، ومن الاختلاف إلى الائتلاف… ما كان ليحدث ذلك كله لولا هذا القرآن نفسه الذي بين أيدينا! إنها لنقلةٌ وجودية عظيمة تلك التي حدثت عند السابقين الأولين فسماها القرآن “إحياء/ حياة” {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}[الأنعام]…والذي حدث هو زوال الحجاب عن عقولهم وأعينهم فصار لوجودهم معنى… وملخص هذه النقلة ومحورها المركزي ورد في آيات قرآنية منها قوله تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[الجمعة] فتلاوة (أو سماع) الآيات تسبق كل مقصد آخر وكل وظيفة أخرى، تلاوة الآيات تسبق التزكية وتعليم الكتاب والحكمة، إن القرآن هو العُمدة، هو المبتدأ والخبر، وغيره نتائج ومتممات ومكملات وربما فضلات، إن مباشرة هذا القرآن -تلاوة و/أو سماعا- ثم دراسته وفق بيداغوجية مناسبة- هو المفتاح… مفتاح الإيمان والإصلاح والعودة إلى الذات والبناء النفسي والمجتمعي.
أستاذ بجامعة الأغواط
hammaboutaleb56@gmail.com
يتبع