أقلام القراء

التطبيع القادم من الشرق -2-/ الأستاذ محمد الحسن أكـــيـــلال

  

 

سر قوة “نتانياهو”

 

كل المتتبعين للشأن الفلسطيني يعرفون أن القضية الفلسطينية قد أبعدت في ترتيب الأحداث رغم خطورتها، بل وأولويتها مقارنة بغيرها، ومع ذلك تتعمد الكثير من وسائل الإعلام الكبرى ذات التأثير الواسع على الرأي العام العالمي تجاهلها، حتى ولو حدث في فلسطين ما لا يمكن أن يقارن به في غيرها من البلدان من حيث الخطورة.

 

الأكيد أن الحكومة الصهيونية في فلسطين المحتلة لها من الخبرة والكفاءة والدهاء ما مكنها من الهيمنة المطلقة على هذه المؤسسات الإعلامية العملاقة، لا لاعتمادها على اللّوبيات الصهيونية المنتشرة في كل البلدان الغربية الكبرى بما لها من نفوذ مادي ومالي وسياسي واستخباراتي على هذه المؤسسات، بل لوجود نفوذ أقوى تأثيرًا في بعض الدول العربية والإسلامية التي التحق بعضها في السنوات الأخيرة بهذه اللّوبيات طمعًا في كسب ودها ورضاها عليها والاستفادة من خدماتها فيما يعين أنظمتها وسلطاتها على التحكم في مقاليد الأمور في بلدانها بتأخير مجتمعاتها بكل الوسائل وتشديد الرقابة على قواها الحية لمعرفة أدق التفاصيل حتى عن نواياها قبل أرائها وأفكارها.

 

العلاقات العربية الإسرائيلية

 

في أكثر من مناسبة يتفاخر رئيس الحكومة الإسرائيلية أمام معارضيه بنجاحه الباهر في كسب ود كثير من القادة والحكام العرب، ولكنه يتحاشى ذكر أسمائهم حفاظا على حساسيتهم هم أمام شعوبهم، لأنه يعرف أن هذه العلاقات الحميمة مع الحكام فقط، بينما يعتبر شعوبهم ما زالت تكن الحقد والكراهية لإسرائيل، ولهذا حرص كل الحرص على تشديد الرقابة على الصحف والفضائيات الإسرائيلية إلى حين ظهور مؤشرات عن بداية ظهور قبول لبعض الفئات من هذه الشعوب للتطبيع مع الدولة العبرية.

 

فالدولتان العربيتان اللتان ترتبطان بالدولة الصهيونية بعلاقات رسمية اثنتان فقط هما: مصر والأردن. لكن الدول العربية التي ترتبط بها بعلاقات سرية بدأت في الازدياد سعيا منها لتطوير أسلحتها وجيوشها ومخابراتها، فمشاركة جيوش كل من مصر والإمارات العربية المتحدة في مناورات مع الجيش الإسرائيلي لم يعد سرا، بل واحتفل الجيشان المصري والإسرائيلي معا في إحياء حرب أكتوبر 1973 بمناورة مشتركة في عرض البحر الأبيض المتوسط بالطيران والبحرية.

 

لقد وصلت حالة الانقلاب الذهني والوجداني لدى بعض الحكام العرب وأشجعهم الرئيس المصري إلى حدّ تخصيص خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الماضية لفقرة طويلة، وبنبرة مزايدة واضحة للدفاع عن أمن إسرائيل وأمن المواطن الإسرائيلي متناسيا أمن الشعب والمواطن الفلسطيني الذي يتعرض يوميا لكل أشكال الإرهاب وأبشعها، وقد لاحظ الكثير من الحضور بكل أسف في هذه الدورة أن الرؤساء والحكام العرب المشاركين فيها، أغلبهم تحاشى الحديث عن كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية باستثناء رئيس السلطة وأمير قطر ووزير خارجية الجزائر، مما جعل القضية تتدحرج فعلا في سلم اهتمام العالم بكل بؤر التوتر، رغم كون القضية الفلسطينية هي أهم جذور كل هذه البؤر.

 

الإمارات جرار التطبيع

 

إن اندفاع دولة الإمارات العربية المتحدة، ومن ورائها المملكة العربية السعودية ولو باستحياء لكسب ود الدولة العبرية عن طريق عقد صفقات أسلحة متطورة جدًّا وبمبالغ مالية خيالية ما هو إلاّ بداية حقيقية لتطبيع سيتطور على مر الأيام ليصبح تطبيعا كاملا قد يصل في نهاية المطاف إلى محاولة فرض عضويتها في الجامعة العربية التي لا حول ولا قوة لأعضائها الآخرين الذين يستجدون ويتسولون المساعدات المالية لدى الدول العربية الغنية المتحكمة حاليا في هذه الجامعة.

 

يحدث هذا في الوقت الذي بدأت فيه ملامح الحسم في كل من العراق وسوريا في محاربة الإرهاب لصالح الدولتين ومن ورائها دول محور المقاومة والممانعة التي بدأت تتسع لتظم تركيا بفضل جهود روسيا الاتحادية التي نجحت إلى حدّ الآن في تضييق الخناق على الدور الأمريكي في المنطقة، وانسحابها التدريجي إلى ما وراء حدود فلسطين لتنشئ فيها قاعدة عسكرية في صحراء النقب، في بئر السبع حيث المحطة النووية الصهيونية، وهذا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تستبقان الأحداث وتحتاطان للمستجدات المتسارعة في المنطقة والتي تحمل في طياتها نذور حرب تريدها الدولة العبرية أن تنتصر فيها وتفرض نفسها كأقوى قوة في كل المنطقة.

 

إن المنحنى الذي عرفه الصراع في المنطقة بين الشرق والغرب، والذي بدأته الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في أفغانستان والعراق بالاستعانة بتمويل دول الخليج العربي عرف في المدة الأخيرة تذبذبات ما انفكت تدفع به للارتداد نحو صانعيه ومؤججيه وكشف المستور وإزاحة النقاب عن وجوه هؤلاء وأولئك، لذلك سارعت المملكة العربية السعودية إلى إنشاء التحالف العربي لتدمير اليمن وسارعت الإمارات من داخل التحالف لاحتلال مناطق فيه وفي الصومال الشمالي للتمهيد لوضع قواعد عسكرية فيها قد تحتاج إليها القوات الأمريكية والصهيونية.

 

الرئيس الأمريكي “ترامب” يريد كرجل أعمال أن يضع بصمته الخاصة على السياسة الخارجية الأمريكية في عهده، إلاّ أنه ولجهله وتهوره أوقع نفسه وإدارته وحلفاءه في وضع لا يحسد عليه، وخاصة أنه ينازل الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” المعروف بدهائه وحنكته واستماتة في الانتقام من أمريكا والغرب لما فعلوه في أمجاد بلاده في عهد الاتحاد السوفييتي.

 

فأخطاء “ترامب” التي أوقعت حلفاءه في دول الخليج العربي في أخطاء أفظع وأفدح، فهي التي اعتمدت صداقتها “ترامب” سارعت إلى إنشاء التحالف العربي لتدمير اليمن فغرقت في مستنقعه دون استطاعة منها للخروج منه، ثم لم تلبث أن ارتكبت خطأ آخر في عزل إمارة قطر، فوجدت نفسها تجني من القرارين امتعاض المجتمع الدولي وتهجم الكثير من الدول عليها في كل مرة.

 

هذه الأخطاء سرعت في تذبذب منحنى الصراع والدفع به اتجاه الهزيمة المنكرة لأمريكا ومن ورائها الدولة العبرية وتتقلص المساحات التي كانت تنوي أن تضع عليها يديها في كل من العراق وسوريا لطرد الروس منها نهائيا، ولكنها فوجئت بحدوث العكس، بل وبدأ افتضاح المستور عن داعش وأخواتها والواقفين وراءها، وهكذا سهلت هذه الأخطاء في عملية تقريب حركتي فتح وحماس وإعلانهما المصالحة الوطنية التي وقفت إسرائيل النشاز لإعلان رفضها لهذه المصالحة لأنها لا تخدم مصالحها وأمنها، وبهذا تكون هي أيضا قد وقعت في شر أعمالها وكشفت نفسها للعالم بأنها الدولة الأولى والوحيدة في المنطقة التي تهدد السلم والأمن في العالم.

 

إن الصراع على خطورته لم يخرج بعد عن السيطرة، وللذكاء السياسي والحنكة الدبلوماسية الدور الأهم فيه بين القوتين الأعظم، والنصر في النهاية للأذكى والأقوى حنكة، وما على قيادات دول المنطقة الجادة فعلا في الحفاظ على سيادتها واستقلالها إلاّ البحث عن الحليف الحقيقي الذي يفرض المنطق التحالف معه، وأول هذه القيادات السلطة الفلسطينية التي لن تجد وضعا أريح لها من هذا في هذه المرحلة بالذات، هذا الوضع يمكنها من إيجاد موقع تفاوضي أقوى مما كان عليه قبل الآن، ومبرراتها الماضية كلها سقطت بحصول الوحدة الوطنية، عليها الآن أن تعيد بسرعة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة ترتيب البيت للاستعداد لعمل سياسي ودبلوماسي يقربها فعلا من تحقيق كثير من أهدافها الاستراتيجية.

 

 

 

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com