كفاءة الترشح للإمارة ومسئولية النواب في التشريع والاستشارة (2)/ محمد مكركب

كان البيان والتفصيل في المقال الأول عن خطورة الإمارة، وثقل أمانة المسئولية، ثم التركيز على التحذير من الإهمال والتقصير، في كل مهام الدولة، كمهمة النواب، ورؤساء البلديات والولاة، والوزراء، والمديرين العامّين، وغيرهم، وكلكم قرأتم الحديث الشريف عن مسئولية الإمارة: [إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها] ونخصص هذا المقال لمفهوم الكفاءة، وضوابطها، وصفات أهلها الذين يصلحون للترشح للإمارة والاستشارة.
وسنبين إن شاء الله تعالى ما هي الأسباب التي تمكن المسلم الذي يتول المهام الكبرى في الدولة من أن يبلغ المقاصد، ويحقق لأمته المحامد، وذلك بعد تعريف المصطلحين: الكفاءة، والإمارة، المقصودتين في هذا البحث.
فأما الكفاءة؟ فهي[امتلاك الأدوات والقدرات وحسن توظيفها بالحكمة]. والكلام عن الإمكانات التي تساوي مقاومة الجهد والأعباء وثقل المسئولية التي يتولاها المسئول، فإذا تساوت قدراته مع مقاومة المهام صار كفؤا، فإذا زاد أكثر من مقاومة المهام صار قدوة في الكفاءة. وتلك الإمكانات التي تتحقق بها الكفاءة هي: العلم العام، والعلم الخاص بالمهمة، وقوة التحرك والتنفيذ، والشجاعة، والوفاء. وفي لسان العرب: [كفأ: كافأه على الشيء مكافأة وكفاء: جازاه (وكأن المعنى الاصطلاحي للكفاءة بهذا المعنى اللغوي، أن الكفء هو الذي يعطي المهام والمسئوليات حقها الكامل جزاء مكافئا) تقول: ما لي به قبل ولا كفاء أي ما لي به طاقة على أن أكافئه.. والكفء: النظير، وكذلك الكفء والكفوء، على فعل وفعول. والمصدر الكفاءة، بالفتح والمد. وتقول: لا كفاء له، بالكسر، وهو في الأصل مصدر، أي لا نظير له. والكفء: النظير والمساوي. ومنه الكفاءة في النكاح، وهو أن يكون الزوج مساويا للمرأة في حسبها ودينها ونسبها وبيتها وغير ذلك] وقالوا: عن الكفاءة اصطلاحا،” إن الكفء هو القادر على العمل المعهود إليه” وقالوا عن الكفاءة هي: الجدارة. يقال: هو جدير بكذا، أي هو كفء له. ومنه قول حسان بن ثابت: “وروح القدس ليس له كفاء” ومن هنا يأتي السؤال: من هو الكفء لهذه المسئولية أو تلك؟ أو من هو الجدير بأن يكون في هذا المنصب أو ذاك؟.
وأما الإمارة فهي منصب الآمر، أو المركز الاعتباري للإدارة الذي يصدر الأوامر، ويسمى الأمير. والأمير: ذو الأمر، أي صاحب الأمر. وأولوا الأمر: الرؤساء من أهل العلم. فالإمارة، كالولاية، المركز الاعتباري للوالي. والسلطنة، وظيفة السلطان، وتطلق الإمارة على كل منصب في التسيير، والإشراف. كرئيس مصلحة، ومدير مدرسة، ورئيس لجنة، ورئيس فرقة، وقائد كتيبة، ووزير وزارة، وغير ذلك.
ما هي الأسباب أو العوامل التي تحقق القدرة والكفاءة التي يستطيع بها المسئول أن يمارس مهامه عن جدارة واستحقاق؟ قال الله تعالى عن ذي القرنين:﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً . فَأَتْبَعَ سَبَباً﴾ والسبب في أصله ومدلوله اللغوي هو الحبل، الذي يستمسك به المتوسل لوقاية نفسه من السقوط، أو للخروج من هوة سحيقة لينقذ نفسه من الهلاك. وأطلق هنا على كل وسيلة آتاها الله ذا القرنين، أو العوامل: كالعلم، والقدرة، والصحة، وتسخير الأرض، والمعادن، والمعاونين. ومن المعاني المستفادة من الآية أن الله تعالى أعطى ذا القرنين وسائِل وأشياءَ عظيمة كثيرَة.
ومن الفوائد أن أبلغك هذه الكلمات الجليلة والجميلة من تفسير المنار:
“إن للأسباب مُسَبِّبَاتٍ لا تعدوها بحكمة الله في نظام الخلق، وأن لله تعالى أفعالا خاصة به، فطلب الْمُسَبِّبَاتِ من أسبابها، وليس من اتخاذ الأنداد في شيء، وأن هناك أمورا تخفى علينا أسبابُها، ويعمى علينا طريق طِلَابِهَا، فيجب علينا بإرشاد الدين والفطرة أن نلجأ فيها إلى ذي القوة الغيبية ونطلبها من مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ، لعله بعنايته ورحمته يهدينا إلى طريقها، أو يبدلنا خيرا منها، ويجب مع هذا بذل الجهد والطاقة في العمل بما نستطيع من الأسباب، حتى لا يبقى في الإمكان شيء مع اعتقادنا بأن الأسباب كلها من فضل الله تعالى علينا ورحمته بنا، إذ هو الذي جعلها طرقا للمقاصد، وهدانا إليها بما وهبنا من العقل والمشاعر.
لا يسمح الدين للناس بأن يتركوا الحرث والزرع ويدعوا الله تعالى أن يخرج لهم الحب من الأرض بغير عمل منهم، وإنما يهديهم إلى القيام بجميع الأعمال الممكنة لإنجاح الزراعة من الحرث والتسميد والبذر والسقي وغير ذلك، وأن يتكلوا على الله تعالى بعد ذلك فيما ليس بأيديهم، ولم يهدهم لسببه بكسبهم كإنزال الأمطار، وإفاضة الأنهار، ودفع الجوائح”. والأسباب أو العوامل المحققة للكفاءة هي:
العامل الأول: والأساس هو العلم، والحكمة، والخبرة. فمثلا المستشار في مجلس الشورى الوطني أن يكون قد درس كل آيات وأحاديث الأحكام، أي أن يكون عالما بأحكام الشريعة، لأن الإسلام دين الدولة، فلا يعقل أن يكون المسئول جاهلا بالدين، والاطلاع على الدستور، والقوانين العامة للدولة كي يستطيع المناقشة والحوار، وإعطاء الرأي المنطقي السليم، ولكي يؤيد أو يرفض على علم وفهم ودليل. وكذلك رئيس البلدية، والمنتخبين في المجلس الولائي، وإلا على أي أساس يوافقون أو يعارضون؟
العامل الثاني: التخصص في المهام التي يتولاها المسئول، من المصلحة إلى المديرية إلى الوزارة، إلى كل المسيرين والإطارات، والقياديين في أجهزة الدولة.
العامل الثالث: العمل بأحكام الشريعة فيما يتعلق بالعبادات، والحلال والحرام، وكل ما هو مفصل في الكتاب والسنة، وما عليه إجماع الأمة، ثم في باب الاجتهاد في الشئون الدنيوية والعمل بالدستور حرفيا فيما لا يخالف نصا من القرآن والسنة، والعمل بما نصت عليه القوانين في باب الاجتهاد في المباحات.
العامل الرابع: حسن القصد والاستثمار، في استعمال الإمكانات، كثير من المسئولين أعطاهم الله من الإمكانات الخيرة الكثيرة، فما أحسنوا الاستثمار، وأكثر من ذلك أسرفوا وبذَّروا ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾ (الأعراف: 10) والتمكين جعل الشيء في مكان خاص به، مناسب له، وهو يطلق على الاقتدار على التصرف، والمعنى أقدرناكم على أمور الأرض وخولناكم التصرف في مخلوقاتها، وذلك بما أودع الله في البشر من قوة العقل والتفكير التي أهلته لسيادة هذا العالم والتغلب على مصاعبه.
العامل الخامس: قابلية التجاوب والتطاوع والتعاون مع الآخرين. كيف لا، وربنا عز وجل قال:﴿وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾(آل عمران) وقال تعالى:﴿وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ﴾(الشورى:38).
العامل السادس: متابعة ومحاسبة من هم تحت إشراف المسئول. تذكر ما ورد من بيان، مبين في قصة ذي القرنين ﴿قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ﴾ (87/88).