لماذا فشلت انتفاضة أكتوبر 1988 في تحقيق التحول الديمقراطي ؟(2)/عبد الحميد عبدوس

الجدير بالملاحظة أنه لما كانت الحركات الاحتجاجية الواسعة التي سميت بـ “الربيع العربي” تهز أركان الأنظمة في الوطن العربي في سنة 2011 ، ظل المسؤولون الجزائريون محافظين على حالة من الاطمئنان تتباين بشكل واضح مع حالات الاضطراب والفوضى التي كانت تنتشر في أغلب الدول العربية، وصرحوا بأن الجزائر ستبقى في منأى عن تلك الثورات الشعبية، لأنها سبقت الدول العربية بانتفاضة أكتوبر 1988، وحتى بعد اندلاع أحداث العنف التي انطلقت شرارتها الأولى من حي باب الوادي بالجزائر العاصمة والتي سميت بـ ” احتجاجات السكر والزيت” في 5 جانفي 2011، تعاملت قوات الأمن مع الشباب المحتجين بكثير من المهنية وضبط النفس بالمقارنة مع أحداث أكتوبر1988 .وبعد أربعة أيام من الاحتجاجات، وعودة أسعار الزيت والسكر إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الاحتجاجات، وسقوط 8 قتلى وإصابة مئات الجرحى أغلبهم من قوات الشرطة، أعلن وزير الداخلية ـ آنذاك ـ دحو ولد قابلية يوم الأحد 9/1/2011 في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية ( أ. ف. ب) أن “فترة العنف انتهت”. .
ويمكن القول اليوم بعد 29 سنة على انتفاضة الخامس أكتوبر 1988، وخمس ست سنوات على ثورات الربيع العربي، إن أغلب الأنظمة العربية عادت إلى طبيعتها التسلطية والقمعية، وأن التطلعات الديمقراطية للمجتمعات العربية قد جرى إجهاضها والانقلاب عليها. وهذه هي الظاهرة التي حاول بعض المفكرين العرب تلمس خفايا أحداثها وشرح أسبابها..
يقول الدكتور خليل العناني أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية، أنه ليس بالضرورة أن تؤدي الثورات إلى تحول ديمقراطي ناجع. هذا ليس تحليلاً، وإنما حقيقة شهدتها مناطق كثيرة من العالم، ولم يبخل علينا علماء السياسة في وضع تفسيرات وتأويلات لمسألة فشل التحول الديمقراطي في العالم، والتي أصبحت أمراً مكرراً ومعتاداً في العقود الثلاثة الماضية، بعد نكوص وارتداد بلدان كثيرة عن المسار الديمقراطي، ووقوعها، بشكل أو بآخر، في براثن الحكم السلطوي..
وهناك خمسة عوامل يعتبرها علماء السياسة عوامل أساسية في فشل التحول الديمقراطي أو إفشاله:
ـ العامل الأول: عدم وجود أجندة وأهداف واضحة للتحول لدى من يقومون بالانتفاضات الشعبية، خصوصاً في مرحلة ما بعد سقوط الأنظمة السلطوية. ذلك أن ثمة فرقاً كبيراً بين إسقاط النظام القديم وبناء نظام بديل.
ـ العامل الثاني : وجود حركات تمرد تقوم بتدمير عملية التحول، بعدم التزامها بالمسار السلمي واستخدام العنف أداة أساسية في الصراع، ما يدفع ناساً كثيرين إلى الانصراف عنها، وتفضل العودة إلى الأوضاع القديمة.
ـ العامل الثالث: التدخل الخارجي الذي يؤدي إلى إجهاض عملية التحول الديمقراطي، وإسقاط الحكومات المنتخبة شعبياً، بسبب عدم تبنيها سياسات تدعم الأطراف الخارجية. والتدخل هنا ليس بالضرورة أن يكون مباشراً أو عسكرياً، وإنما قد يكون بالسيطرة على النخب المدنية والعسكرية، وتحويلها إلى عملاء محليين للأنظمة الأجنبية.
ـ العامل الرابع : تدخل العسكر في العملية السياسية، وإجهاضها من أجل التحكم والسيطرة في المجتمع والاقتصاد. وهنا، تتحول المؤسسة العسكرية إلى قوة سياسية واقتصادية منافسة، تسعى إلى حماية مصالحها ومصالح أعضائها، تحت شعارات الوطنية وحماية البلاد من التقسيم والانهيار.
ـ العامل الخامس : فشل الأنظمة الجديدة التي وصلت إلى السلطة في إدارة عملية التحول الديمقراطي، سواء من خلال عدم قيامها بإصلاحات جذرية في مؤسسات النظام القديم، أو باتباع سياسات سلطوية، من أجل الحكم والسيطرة على حساب شركاء الثورة والتغيير.
وهناك عامل آخر يعتبر من أكبر معوقات الديمقراطية في الوطن العربي حسب الدكتور برهان الدين غليون، أستاذ علم الاجتماع السياسي ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بباريس، وهو عامل الثروة الريعية الكبيرة التي ميزت حقبة ما بعد الاستقلال، فقد استفادت البلاد العربية من مصادر ريعية كبيرة وهامة نتيجة تصدير النفط، ولا تزال هذه المصادر الريعية تشكل فيها أهم مواردها والعامل الرئيسي في تأمين استمرار المجتمعات اقتصاديا. وقد عملت هذه المصادر – في ظروف انعدام البنية الصناعية المتينة والإدارة الحديثة وبصرف النظر عن طريقة توزيعها – على قطع الطريق على التطوير العقلاني والموضوعي للمؤسسات والممارسات العامة ومنظومات القيم، وقد ساهمت بذلك في ترسيخ أسس الدولة الريعية التي تحظى النخب الحاكمة فيها بموارد مستقلة كبيرة تمكنها من الاستغناء عن المجتمع بل تجعل منها المرضعة لهذا المجتمع مقابل تنازله عن حقوقه السياسية والمدنية، وهو ما يفسر تطور السلوك الأبوي والعشائري لهذه النخب في إطار الدولة الحديثة واعتمادها المتزايد على منطق الزبائنية وتجاوز أي نموذج حياة سياسية وقانونية سليمة، كما يفسر النمو المفرط للعديد من القيم والسلوكيات السلبية مثل الميل إلى التبذير والهدر وسيطرة النزعة الاستهلاكية واحتقار العمل أو تخفيض قيمته على حساب الإثراء السريع وغياب روح الاستثمار العقلاني والمراهنة على علاقات القربى السياسية والتحاق النخبة الاجتماعية بالدولة والسلطة وانعدام الجدية والتساهل أمام الفساد والفوارق الخطيرة بين الطبقات.
وقد ساهم هذا الريع النفطي الكبير أيضاً في تعميق التناقضات والتوترات الاجتماعية بقدر ما عمل على تعميم أنماط الاستهلاك الريعية على عموم أفراد النخبة العربية. ولم يكن أمام النخب المالكة والحاكمة – أي أصحاب الثروة وأصحاب السلطة- من حل لتوسيع قاعدة نفوذهم وثروتهم والوقوف في وجه المطالب الاجتماعية المتزايدة التي جعلها الانفجار السكاني مطالب صعبة التحقيق سوى التفاهم والتحالف في سبيل إغلاق كلي وكامل للحقل السياسي. وهذا ما عمم نموذجاً متشابهاً للحكم في البلاد العربية وجعل من الممكن بالفعل الحديث عن منظومة عربية واحدة ومندمجة موحدة للتسلط والطغيان.