الدكتور محمد الراوندي كما عرفته
أد. سعيد شبار /
انتقل إلى جوار ربه مساء الأحد 5 يوليو 2020 أستاذنا فضيلة الدكتور محمد الراوندي -رحمه الله – ومعروف لدى المتابعين لحالته الصحية معاناته مع أمراض كثيرة طيلة الثماني سنوات الأخيرة أو يزيد. ومثلي مثل سائر طلابه وأصدقائه أعزي أولا أسرته الصغيرة، أبناؤه وزوجته الفاضلة وأقاربه، كما أعزي أسرته العلمية الكبيرة داخل المغرب وخارجه، وخصوصا المؤسسة العلمية التي هو عضو مجلسها الأعلى ودار الحسنية التي درَّسنا بها.
سياق علمي أكاديمي وثقافي عام
لقد تخرج على يد استأذنا أجيال من الباحثين، وكان لي شرف التتلمذ عليه في العامين 88-89 من القرن الماضي في مادة الحديث والنّقد، نقد الرجال والمتون، بالإضافة إلى تحقيق الكتب والمخطوطات؛ حيث كان أستاذنا هنا، كما يعرف كلّ من تتلمذ على يديه وخَبَرَ عمق دقته في النّقد والمتابعة والتصحيح والترجيح، ظاهرة فريدة جدا ذات قدرات استثنائية إن لم أقل خارقة. بحيث كان يستدرك على كبار المحققين لكتب التراث أمثال شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط، والألباني، وبشار عواد، وعبد السلام هارون، ومحمود شاكر… وغيرهم؛ مدققا ومرجحا بالتاريخ، أو مفردات اللغة، أو الأحداث والسياق، أو الأماكن والبلدان، أو الشيوخ والتلاميذ… وغير ذلك، من خلال ذاكرة قوية جدا في الاستذكار واستحضار المعلومات وسنوات الميلاد والوفيات. لقد ورث عن المحدثين منهجهم الصارم في نقد ونخل المرويات، فأجراه على كل ما يقع بين يديه من النصوص والاطروحات، فلا يكاد يسلم من غربال نخله إلاّ القليل من الأعمال لباحثين متميزين.
كانت حصة أستاذنا يسودها صمت رهيب لعاملين اثنين: أولهما دقة ما يتحدث فيه وعنه، حيث ينبغي استجماع كل قوى الانتباه واليقظة من أجل الفهم والمتابعة؛ والثاني طبيعته الحادة الناقدة التي يمكن أن يسلطها على من يتجرأ على التشويش أو يبدي لا مبالاة معينة. وعيب أستاذنا الكبير أنه لم يكن يكتب ويدون، ولو فعل لكان لعطائه أثر وأي أثر في مجال التحقيق والدراسات التراثية؛ ولقد اقترحنا عليه مرة مع فضيلة السيد الأمين العام أستاذنا سيدي محمد يسف، أن نجند أربعة من أمهر وأنجب الباحثين يسألونه ويدونون أجوبته في مختلف العلوم والفنون، يتناوبان على ذلك مدة كافية حتى يتم استخراج ما بجعبته مما يسر الله له، لكن لم يتيسر الأمر لانشغالاته وبداية تحكم المرض منه. ومعروف عن أستاذنا رحمه الله أنه كان محبا بل عاشقا لطول المذاكرة نهارا والسهر ليلا، تجده في حالة إغفاء لكن بحضور وانتباه عقلي وقلبي لا يكاد يفلت شيئا من النقاش.
ميزة أخرى علمية وثقافية وفنية عامة كان فيها أستاذنا حالة استثنائية كذلك، وهي مشاركته في كثير من العلوم والآداب والفنون؛ علوم اللغة، العلوم الشرعية، وعلوم إنسانية اجتماعية، وخاصة التاريخ قديمه وحديثه والأحداث والوقائع التفصيلية الدقيقة بالأسر والأنساب، وبأنواع دقيقة من الآداب والفنون، بما فيها الغناء والرياضة بأنواعها المختلفة، ولو ناقشته في أي منها حسبته متخصصا فيها دون سواها. وكم مرة كان يشتبك مع أساتذة كبار في هذه المجالات يناظرهم فيها بدراية واقتدار، ولا ينفك عنهم إلا بإقامة الحجة عليهم.
سياق إنساني واجتماعي
كانت في أستاذنا حدة طبع جعلت كثيرين يبتعدون منه، ويحتاطون من التعرض لنقده، وأحيانا من ألفاظه الجارحة. وإن كانت في أستاذنا عيوب وسلبيات، فمن ذا الذي سلم العيوب والنقائص؟ وهو قد يفضل غيره بكون باطنه كظاهره، لا يحابي ولا يحتاط ولا يواري يقول وبوضوح كبير ما يعتقد وما هو مقتنع به ولو كان صادما. لكن من تواصل معه بشكل جيد وحاز ثقته، اكتشف فيه عمقا إنسانيا أصيلا محبا للخير ومدافعا عن الدين ومساعدا وموجها للباحثين؛ له قدرة خارقة على نسج علاقات إنسانية كثيرة، حتى إنك لتجد له شبكات من الأصدقاء في الداخل وفي الخارج. فبالإضافة الى قطاع العلم والمعرفة، له علاقات مع التجار والصناع وأصحاب المهن والحرف المختلفة؛ وكانت بحوزته مذكرة ضخمة عليها مئات الأرقام الهاتفية، حتى إذا ذكرت له اسما لا يكاد يخطر على بال أعطاك هاتف صاحبه.
من لم يخالط الدكتور الراوندي -رحمه الله – مدة طويلة، وبقيت علاقته به سطحية، صعب عليه اكتشاف معدنه النفيس وأجرى عليه أحكام الظاهر. وكثير من الزملاء الأساتذة ورؤساء وأعضاء المجالس العلمية، كانوا يزورونه في البيت قبل المرض وأثناءه، وكان مع أهل بيته يستقبلون الجميع بالكرم والترحاب اللائق. ولم يكن يخطئ حضور ملتقى من ملتقيات العلم إلا نادرا، فكان يحرص على حضور معظم أنشطة المجالس العلمية، يسهم فيها من جهة بنقاش علمي أصيل وعميق، كما يحولها إلى مناسبة تعارف وإنشاء صداقات جديدة.
من آخر اللقاءات المطولة التي قضيتها مع فضيلة الدكتور، سفر إلى مصر لحضور مؤتمر نظمه الأزهر منذ بضع سنين، وذلك قبل أن يقعده المرض، حيث كنا معا في غرفتين متجاورتين نكاد لا نفترق لا ليلا ولا نهارا مدة أسبوع كامل؛ وكانت مناسبة للتعرف أكثر على جانبه الإنساني، بالإضافة إلى الاستفادة من خبراته المتعددة. من طرائف هذا السفر أنه كان مُبرمجا أن نزور قبر أستاذته التي يجلها كثيرا، الدكتورة عائشة بنت الشاطئ رحمها الله، وفي كل مرة كنا نجد صعوبة في الذهاب لكثرة الالتزامات في المؤتمر حتى حل موعد السفر ولم يتيسر الأمر، فغضب لذلك غضبا شديدا وقاطع كثيرا من المنظمين، واعتبر ذلك إخلالاً منه بالوفاء لأستاذته ورد قسط من الجميل بالترحم عليها والدعاء لها. من ذلك أيضا أنه نسي في هذا المؤتمر مذكرته التي لم تكن تفارقه والتي فيها أرقام الهواتف، حيث انزعج لذلك انزعاجا كبيرا وكأن طرفا منه قد ضاع، وبقي حريصا على استعاذتها حتى تم ارجاعها اليه، فهي وسيلة تواصله الإنساني والاجتماعي.
ومن آخر الأعمال العلمية التي حرصت على الاستفادة منه فيها، كتاب لي هو قيد التحرير حول «المدرسة السلفية المغربية، خصوصية الماضي والحاضر» حيث قرأه وحشى عليه بملاحظات نفيسة بخطه الجميل، اضطرتني إلى الرجوع إلى مصادر عدة كنت أهملتها؛ وهذا ما جعل الكتاب يتأخر، وكم كانت رغبتي قوية في أن يصدر وهو على قيد الحياة حتى يرى ثمرة أسهم في إنضاجها، لكن قدر الله تعالى كان اسبق.
وبعد
إنّ كلّ ما أتينا على ذكره من مناقب الرجل وفضائله على قلتها، وهي ليست إلا غيضا من فيض كما يقال، إنما هو تعداد لحسنات وأعمال من الخير نسأل الله تعالى أن يتقبلها منه وأن يثيبه عليها، وأن يغفر بها زلاته وسيئاته؛ وقد أمرنا أن نذكر موتانا بخير. ونرجو من كل طالب علم استفاد منه قليلا أو كثيرا، أن يدعو له بالرحمة والمغفرة، ونسأل الله أن يتقبله عنده من الصالحين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.