قضايا و آراء

مثلـــث الإســـلام للاخـــراج الحضـــاري (6) العـــــدل أســـــاس الإمامـــــة والاستخـــــــــلاف

د.كدير مراد /

بعث الله سبحانه وتعالى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سياق سياسي محلي ودولي شديد الصعوبة إذ تعددت فيه الاديان الوضعية المتدافعة واختلفت الافكار القائدة للمجتمعات وتضاربت المصالح محليا وإقليميا ودوليا، في حين اتفق العالم البشري على منظومة اجتماعية وسياسية ثابثة هي الجور والظلم. فرضت الاديان الوضعية المتقلبة مثل تقلب الانسان الظلوم الجهول الذي انتجها وتمكنت على الأرض من خلال القوة والسلطان عبر الامبراطوريات الحاكمة للعالم سواء الرومية البيزنطية غربا أو الفارسية الزردشتية شرقا على السياق الدولي الذي تلون بالحروب الطاحنة والغزو المتكرر والكرات الهجومية والدفاعية بين هاتين القوتين الهادفة للتمكن من البشرية والسيطرة عليها واستعبادها. او تلك المنظومة المحلية المسلطة داخل الجزيرة العربية القائمة على البداوة الحضارية وعصبية القبيلة والاعتداد بالنسب والتحرك لتمكين مصالح القبيلة، دون الحديث عن ذاك العدوان المتكرر الذي تحكمه أنا الانتقام والجشع التي كانت تحكم القبائل العربية.
إن الإخراج الحضاري العالمي الذي جاء لتحقيقه الإسلام بعد اخراج العباد من عبودية المعبودات إلى عبودية خالق المعبودات وواجد الموجودات مقصدا وغاية عبر ترسيخ قيمة الهدى، اخراج ينقل الناس من ذل الاستعباد إلى شرف العبادية لله “عبادا لنا” . لقج غير الاسلام نظرة البشرية لله والانسان والطبيعة منتجا نظرية معرفة جديدة سميت العقيدة الاسلامية الصحيحة قاعدة البناء الاسلام الحضاري. لقد أقام رسول الله ذلك البناء (بناء الانسان والسلطان والعمران) فبنى الصحابة بناء اخرج به الانسان الكوثر بمنهج القرآن وبنى رسول الله دولة الاحسان عبر اقامة السلطان (الدولة الاسلامية الفتية الراشدة) وأتم الصحابة ومن بعدهم المسير الحضاري بحسن فقههم لغايات الاخراج الحضاري عملية بناء العمران.
إن الغاية الثانية في مثلث الاسلام للإخراج الحضاري هو الاستخلاف بعد غاية تمكين الهدى للعالمين انطلاقا من البيت الحرام جغرافية المنطلق والمبتدأ لكل رسالة عالمية عبر بناء الانسان الكوثر ،تحقيق مقام الاستخلاف في الأرض عبر خلافة الله على عالم الموجودات التي سخرها له لتحقيق العبودية لله وحسن إدارة وإمامة البشرية وقيادتها نحو الله. الاستخلاف في الأرض هو كما قالها ربعي بن عامر في مثلثه الذهبي المعبر عن تشرب الصحابة ووعيهم بغايات الاخراج الحضاري هو اخراج العباد من جور الاديان إلى عدل وسماحة الإسلام. وكذلك كانت رسالة رسول الله وغايته هو تمكين البشرية من ممارسة وظيفتها عبر تحرير البشرية ابتداء برفع الظلم والجور المسلط على العالمين في عالم الافكار والأشخاص والأشياء، من المنظومة الدولية القائمة على أقطاب دولية متصارعة تسعى إلى التمكن من البشر ومحليا تلك البداوة العصبية المعتدة بالمال والنسب والقوة.
لقد انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من جغرافية الهدى للعالمين المسجد الحرام إلى جغرافية الرحمة والعدل للعالمين المدينة المنورة وانتقل من وظيفة بناء الانسان الحضاري الكوثر المستمرة إلى وظيفة بناء السلطان الحضاري الكوثر، منظومة سياسية جديدة متفردة مؤيدة بالوحي مسددة به لا تنطلق من نفس منظومة الظلم والجور والتسلط على البشر لإعلان الوجود بل سلطان دين ودنيا يكون مأوى للمظلوم المكلوم المحروم المعدوم. فتكون له أملا في الدنيا لتحقيق السعة الدنيوية والاخروية.
يربينا رسول الله أن غاية الاسلام لا تتوقف عند التربية الذاتية والصلاح الفردي عبر الدين الشعائري ولو أن ذلك قاعدة بناء الاسلام (العقيدة والعبادة والأخلاق) بل بالانتقال إلى رفع أعمدة الاسلام في ربوع الأرض عبر رفع الظلم المسلط على الانسان عبر بناء السلطان المتدافع مع حملة مشروع الفساد والجور واستعباد الناس، السلطان الهادف لنشر العدل وإشاعة الرحمة وإبراز نموذج جديد للدولة المعتمدة على القيم والمبادئ والأخلاق، الدولة القائمة على الحرية والمساواة والمواطنة والحقوق والواجبات المشتركةـ الدولة المنطلقة من القبيلة ميلادا لكن غير محكومة بتفكيرها ومصالحها وشبكة علاقاتها دولة جامعة للأعراق والطبقات يتميز فيها الفرد بالتقوى وخدمة الاسلام وحسن خلافة الله على الأرض.
إن الاستخلاف في الأرض الوظيفة الحضارية ليس كيانا سياسيا فحسب بل هو تحويل عالم التصورات المبني خلال وظيفة تحقيق العبودية لله وبناء الانسان إلى عالم التصرفات الهادف لتنزيل نظرة الاسلام ونموذجه الحضاري وقيادة الحياة البشرية به في مناحيها المختلفة من إقتصاد وفن واعلام وسياسية وقانون ومجتمع . إن الاستخلاف في الأرض مع كونه وظيفة حضارية إلا أن تفويض رباني مشروط وشرطيه العدل والرحمة فأي سلطان لا يقوم على الرحمة والعدل فهو إلى زوال ولو كان محققا للعبودية لله صوريا او تصوريا، صوريا بتقمص الحاكم جبة الاسلام أو باكتفائه بمظهره الخارجي دون الغوص في أعماقه وتحقيق غاياته ومقاصده أو تصوريا باعتماد تصور مجتزل للاسلام يقوم على مجموع الشعائر التعبديو ، وقد يدوم السلطان العادل الرحيم لغير المسلم لسيره على سنن الامامة والتمكين.
إن السلطان أو الدولة التي نهدف تأسيسها لا تسعى للسلطة في حد ذاتها كمقصد بل هي أحد مراتب تحقيق العبودية لله الست ودرجة من درجات سُلّم الانبعاث الحضاري للاسلام الذي يسعى لقيادة الناس (افرادا وأسر ومجتمعات ودول وأمة وبشرية) نحو الله دعوة وإصلاحا لا تسلطا وجبرا وإكراها والتدافع مع الظلم والفساد تدافعا. وبما أن هذه الوظيفة مرتبطة باستخلاف الله على الأرض فإن أخذ الوظيفة مشروط بتحقيق العدل والرحمة، فلا خلافة وإمامة دون عدل ورحمة، ولأكاد أجزم أن أفضل شعار معبر عن تفويض الله للانسان بتحقيق وظيفة الاستخلاف المشروط هو فاتحة السور المستخدمة في دستور الاسلام وديباجته الواحدة المتكررة «بسم الله الرحمان الرحيم» فبإسم الله سار الانبياء لإخراج العباد نخو العبودية لله والعدل والرحمة والسعة في الدنيا والآخرة وأنقذوا البشرية من عبادة العباد وجور الاديان وضيق الدنيا المسلط عليهم ولتجدن مثال سيدنا سليمان الذي نال الامامة والحكمة والحكم والنبوة من عاصمة الامامة بيت المقدس يفتتح رسالته الدبلوماسية الى ملكة سبأ بلقيس ممارسا الوظيفة الدعوية بأداة الدولة تظمينه أخذ شرعية الدعوة والحكم من الله الرحمان الرحيم « إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمان الرحيم»
إن بناء السلطان (وظيفة الاستخلاف في الارض) باسم الله ومرجعية الاسلام القائدة للبشر نحو الصلاح مشروط بصفتي الله الحسنى الرحمان والرحيم، الرحيم المعبرة عن الرحمة، والرحمان اسم الله الذي يأتي مفردا لا مقترنا بأي صفة من صفاته العليا بل خصهالله هذا الاسم العظيم بسورة كاملة شرحت أسراره وأظهرت أنواره وأبانت عن مكنونه- سورة الرحمان- التي عرفت الله والانسان والوجدان والطبيعة وبعدها أعطت أمرا ربانيا « ألا تطغوا في الميزان» بعد خص هذه الصفة بتعريف «والسماء رفعها ووضع الميزان».
إن الميزان الذي وضعه الله على الأرض هو مهمة ربانية للانسان وشرط من شروط تشريفه بالامامة والاستخلاف وكذلك كانت الرحمة أداة بناء السلطان، لا أداة الظلم والدم الذي طغت على سلوك البشرية وكذلك جاء الاسلام لتخليصها من هذه المنظومة الممتدة.
لقد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بناء الانسان في الفترة المكية الحامل لرسالة النهوض والشهود والاخراج الحضاري على وضع قواعد بنيان السلطان الذي سيكون أداته لتحقيق ذلك فكانت المدينة عاصمة للعدل والرحمة النبوية ولازالت كذلك للعالمين أجمع «إنما أرسلناك رحمة للعالمين» لقد وطن رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ اللحظات الاولى لقيام الدولة الاسلامية الفتية مقام العدل والرحمة سواء عبر وثيقة المدينة التي رسخت للمواطنة وتساوي الحقوق والواجبات رغم اختلاف المعتقدات والتصورات أو عبر سلوك رسول الله في السلم والحرب المنطلق من مقام الرحمة والعدل الذي ظهر خلال الغزوات ودعوة القبائل بالحسنى للاسلام أو عبر العفو والتواضع الذي كان يغلب على رسول الله عند دخول المناطق المفتوحة. ولعل تعديد شمائل رسول الله والمشاهد التي أبانت عن رسوخ قيمتي العدل والرحمة في إمامة رسول الله وبعده الخلفاء الراشدين ليس موضوعنا بقدر هو توكيد وتأكيد على أن وظيفة اخراج العباد من الظلم والجور الى عدل الاسلام هي وظيفة وغاية ثانية حضارية ضمن مثلث الاسلام للاخراج الحضاري وسير من الاسلام لتمكين قيمتين بشريتين جديدتين الرحمة والعدل بعد الهدى للبشرية جمعاء لا المسلمين وحدهم وكذلك نسعى لتحقيق ذلك والتذكير بذلك خلال مسيرنا لاعادة الاسلام للقيادة العالمية والشهود على الامم والعالمين.
والله أعلم بمراده.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى

مرحبا بكم في الموقع الرسمي لجريدة البصائر

 

تفتح جريدة “البصائر” صفحاتها للأساتذة الجامعيين والمؤرخين والمثقفين، لنشر إسهاماتهم في شتى روافد الثقافة والفكر والتاريخ والعلوم والأبحاث، للمساهمة في نشر الوعي والمبادرات القيّمة وسط القراء ومن خلالهم النخبة وروافد المجتمع الجزائري.

على الراغبين والمهتمين إرسال مساهماتهم، وصورة شخصية، وبطاقة فنية عن سيرهم الذاتية، وذلك على البريد الالكتروني التالي:

info.bassair@gmail.com