الـبــدعــــة وخــطــــورة الإطـــلاق والـتـعــمــيــــــــــم
عبد العزيز كحيل /
للعلماء مباحث ضافية طويلة عريضة في مفهوم البدعة وتطبيقاته، تناولت المسألة من جميع الجوانب وبأدق التفاصيل وفقا لنصوص القرآن والسنة بناء على علم الأصول وفي ضوء مقاصد الشريعة، ففصلوا المجمل، وفرّقوا بين الحالات، وميّزوا بين ما يتعلق بالأمور الدينية البحتة وما هو من شؤون الحياة، إلى غير ذلك من التفصيلات بحيث شيدوا بناء متكاملا ليس فيه مجال للإطلاق أو التعميم، أما ما يسمى السلفية ففعلت عكس هذا تماما واختزلت البدعة في كل جديد في حياة النّاس الدينية والدنيوية، في الغايات والوسائل، في الأشكال والجوهر، والمعنى والمبنى…البدعة شيء واحد: ما لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم!!! فقد بدّعوا حتى من يضع خطا تحت كلمة لبيان أهميتها لأن السنة وضعه فوقها!!!(هذا موجود في كتاب مشهور لواحد من أكبر شيوخهم في العصر الحاضر)…كل هذا استنادا إلى حديث « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ» – متفق عليه، فقد تمّ تحميل هذا الحديث ما لا يحتمل من التطبياقت تنتهي كلها إلى ما أشرنا إليه: البدعة شيء واحد: ما لم يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
ولْنأخذ جزئية بسيطة صيّروها من قضايا العقائد وأكبر المعاصي هي السبحة، قالوا هي بدعة منكرة لأن السلف لم يعملوا بها… السبحة آلة أو وسيلة لضبط الحساب ليس إلا، إذا قلنا ببدعيتها فإن المسجد الذي نصلي فيه بدعة لأن المساجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي القرون الأولى لم تكن لها صوامع ولا هي مبنية بالآجر والأسمنت، بل بالطين ومسقوفة بجذوع الأشجار وسعف النخيل، ولم يكن بها سجاد وليس في أرضياتها أو جدرانها رخام، وليس فيها محاريب ولا بيوت للوضوء، فهل هذا يعني أنه يجب علينا أن نتبع السلف الصالح في هذا، فنفرش مساجدنا بالرمل ونسقفها بجريد النخل وجذوع الشجر ونبنيها باللَّبِنِ والطين ولا نغير ولا نبدل لأن ذلك بدعة؟ هذا هو الجمود باسم السنة يمتدّ إلى الآليات والوسائل والأساليب، والحقيقة أن طوائف من السلفيين تعدّ كل ما سبق بدعة، وقام أفرادها في أكثر من مكان بإزالة المحاريب عنوة… ومن الطرائف المضحكة المبكية أنهم ساندوا القرار الحكومي بإلغاء شعبة العلوم الإسلامية من الباكلوريا وأكدوا أن هذا عودة إلى زمن الصفاء حيث لا يحتاج المسلمون إلى الثانويات والجامعات بل يتعلمون أمور دينهم ويتخرجون من المساجد، وكان الطلبة الوهابيون الوحيدين الذين قاطعوا إضراب الطلبة بهذا الشأن.
لكن هذا كله هيّن مقارنة مع قضائهم على التراث الإسلامي التاريخي، ذلك الإرث المشترك بين المسلمين الذي امتدت إليه أياديهم بالتخريب لأن الاهتمام به بدعة في الدين!!! آثار ومعالم تاريخية لا تُقدر قيمتها المادية والمعنوية بثمن أزالوها بالمعاول والفؤوس أو ردموها وطمروها بالجرافات أو طمسوا معالمها، هَدَمُوا بيت السيدة خديجة رضي الله عنها أول مكان يَتَنَزَّلُ فيه الوحي وحُوّلوه إلى دورات مياه وبيوت خلاء، وطُمست معالم قبور ألصحابة وأمهات المؤمنين وآل البيت الكرام رضي الله عنهم فباتت شواهدها حجارة مبعثرة، هدموا بيت الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري الذي استضاف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند قدومه إلى المدينة، وردموا بئر (العين الزرقاء) قرب قباء وبئر أريس (بئر الخاتم) ومنعوا المسلمين من مشاهدة بئر أرومة التي اشتراها عثمان رضي الله عنه من اليهودي وأوقفها في سبيل الله،
أزالوا أثر « مَبْرَك الناقة « ناقة النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد (قباء) يوم قدومه مهاجراً إلى المدينة، هدموا بستان الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه، فعلوا نفس الشيء مع معالم وآثار معركة بدر وأحد والحديبية وحنين والأحزاب وغيرها من أيام الله التي نصر الله بها رسوله وعباده الصالحين وهزم الشرك والمشركين فأزالوها تمامًا أو غيّروا معالمها وطمسوا آثارها حتى لم يبق في المدينة المنورة من آثار المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام سوى المسجد النبوي وحده لأن شيوخ الوهابية أفتوا أن كل أثر يقصده المسلمون هناك للسياحة والإطلاع والاعتبار هو شرك بالله تعالى، والغريب أن الله تعالى أمرنا بأن نسير في الأرض لننظر آثار المشركين فنعتبر بها، والتي لا تزال مزارًا للسائحين بينما محيت آثار عصر الإسلام المجيد، وما كان الحُكام ليفعلوا هذا لولا فتاوى شيوخ السلفية، ونحن نعلم أن علم الآثار علم عزيز يمكّن من توثيق التاريخ ويستطيع المسلمون أن يجعلوه وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله، يقيم الحجة ويثبت صفحات تاريخنا المجيد لمن لا يؤمنون بأخبار القرآن والسنة.